مادامت عقوبة الغياب غير المبرر، عن حضور جلسات مجلس الشعب، هي حسم أربعين ليرة من راتب العضو عن كل جلسة، وعشرين ليرة عن كل لجنة، فمن تتوقعون أن يكون الأكثر غياباً عن الجلسات؟ طبعاً من لاتهمه خسارة العشرين أو الأربعين ليرة )رجال الأعمال( الذين لا يفكّر معظمهم باستلام راتبه من أصله.
في هذا التحقيق، تقدم تشرين نتائج استقصاء، عن الدورة التشريعية الثامنة، يؤكّد أنّ أكثر أعضاء مجلس الشعب غياباً عن الجلسات ودون إذن مبرر، كانوا رجال الأعمال، وتحديداً (14( عضواً كانوا الأكثر غياباً على الإطلاق، من بين مجموع النوّاب البالغ (250(عضواً.
محاسبة أعضاء مجلس الشعب
أكثر من ذلك، فإن هذا التحقيق، يقدّم ومن خلال المدة الزمنية التي رصدها، والممتدة لعامين تقريباً من عمر المجلس البالغ أربع سنوات، أنّ بعض أعضاء المجلس من تجّار وصناعيين ومستثمرين، لم يقدّم أية مداخلة أو سؤال على الإطلاق. وبعضهم الآخر قدّم مداخلة واحدة أو اثنتين، تزامنت مع حضور وزير الصناعة أو الاقتصاد، وتركّزت حول )البزنس(. فيما اكتفى بعضهم بإرسال سؤال واحد أو سؤالين مكتوبين بالبريد، دون حضوره شخصياً، فكان البعض من هؤلاء، يتعاملون على أنهم أعضاء في مجلس الشعب، لكن بالمراسلة!
فهل من حقّ ناخبيهم أن يعرفوا ما يحصل؟
أحد أعضاء مجلس إدارة غرفة الصناعة عصام زمريق، لا يعرف من سينتخب، وهو كان يتمنى من رئيس مجلس الشعب السابق ـ كما قال لتشرين ـ أن يساعده في اختيار مرشحه، بأن يكشف له: من كان من ممثليه السابقين من رجال الأعمال، ملتزماً بحضور الجلسات، ومن كان منهم ممثلاً حقيقياً لناخبيه، من خلال تقديم المداخلات والأسئلة ومتابعتها...ويضيف: «لأنّ ما أعرفه ومن خلال عدد من الأعضاء، أن كثيراً من وجهائنا في المجلس، يحضرون بداية الجلسات ثم ينسحبون بعد أخذ بعض اللقطات التلفزيونية».
لعلنا في هذا التحقيق نشفي غليل هذا الرجل المحتار أو نساعده، وربما نقدّم أيضاً، ما هو قريب مما يقترحه الصناعي بشار معاني، بـ«محاسبة أعضاء مجلس الشعب من رجال الأعمال في نهاية كل دورة، عمّا فعلوه خلال دورتهم الانتخابية»وهو يأمل من خلال هذا الاقتراح، الوصول إلى كشف من يعمل ومن «يتبروظ»، وفي هذه الحالة، فإنّ مايأمله معاني هو استبدال تلك «الوجوه المكررة والمألوفة بدماء شابة ومؤهلة بكل معنى الكلمة».
أعضاء مجلس الشعب من مشاهير الأثرياء، والذين أصبحت صورهم جزءاً من احتفالية، تتحفنا بابتساماتها كل أربع سنوات، هم على رأس الأسماء الأربعة عشر الذين تحضر صورهم في الشوارع هذه الأيام، أكثر من حضورهم لجلسات المجلس ذاته. ولو كانت قوانيننا البرلمانية في هذه النقطة، مماثلة لقوانين بعض الدول العربية ومنها (اليمن والعراق)، لرأيتنا ننشر لكم أسماء هؤلاء (الأربعطش) بكل وضوح.
لكن العقوبة الوحيدة التي تنص عليها المواد 170 ـ 171 ـ 172 من النظام الداخلي لمجلس الشعب في سورية هي: أن حضور الجلسات «واجب» على أعضاء المجلس. كما نص على أن «يوضع تحت تصرف الأعضاء، سجل دوام يوقعون عليه عند حضورهم، ومتى حل موعد افتتاح الجلسة، يطلع الرئيس على السجل، فإذا تبين أن العدد القانوني لم يكتمل، فله أن يؤجل افتتاحها نصف ساعة، فإذا لم يكتمل العدد بعد ذلك افتتح الرئيس الجلسة بتلاوة أسماء الغائبين، وأعلن رفعها إلى يوم آخر« وجاءت العقوبات في المادة 171 بحيث« يحسم من تعويضات الأعضاء عن كل جلسة يتغيب عنها العضو المبالغ التالية : أربعون ليرة سورية عن كل جلسة عامة في المجلس دون إذن مسبق ـ عشرون ليرة سورية، عن كل جلسة تعقدها اللجنة التي هو عضو فيها دون إذن مسبق". وجاء في المادة 172: لا يحسم من العضو شيء، إذا حضر جلستين في الأسبوع، لكل لجنة هو عضو فيها، أو إذا أجيز للقيام بمهمة انتدبه لها المجلس أو الحكومة بصورة رسمية.
أمّا إذا استمر غياب العضو أكثر من شهر دون إذن من المجلس فإن المادة ذاتها تنص أنّه لن «يتقاضى شيئاً من تعويضاته مدة الغياب».
وفي مقابل هذا الدلال لأعضاء مجلس الشعب المتهرّبين من حضور للجلسات في سورية، تقدّم اللائحة الداخلية للبرلمان في اليمن على سبيل المثال، تحذيراً لكل عضو يتغيّب عن حضور الجلسات بنصوص قاسية متدرجة، حيث تنص المادة (200( أنه: "لا يجوز للعضو أن يتغيب عن حضور جلسات المجلس، إلا بإجازة من رئيس المجلس أو أحد نوابه، وإذا تغيب العضو عن حضور الجلسات بغير إجازة أو دون عذر مقبول، تتخذ بشأنه الإجراءات، التي نصّت هذه المادة بتدرجها من التنبيه إلى الإنذار إلى نشر الأسماء في وسائل الإعلام مع الحرمان من المكافآت.
فيما أشارت اللائحة الداخلية للمجلس الوطني الاتحادي الإماراتي، إلى ضرورة التزام العضو بحضور جلسات المجلس، فإذا تخلف عن حضور الجلسة دون عذر مقبول، كان لرئيس المجلس أن يلفت نظره كتابة، فإذا تكرر الغياب في دور الانعقاد الواحد من دون عذر مقبول ثلاث جلسات متوالية أو خمس جلسات غير متوالية جاز للرئيس أن يوجه إليه إنذارا نهائيا بعدم الغياب أو يقرر بأغلبية الأعضاء الذين يتألف منهم المجلس اعتباره مستقيلا.
أما النظام الداخلي لمجلس النواب المغربي، فقد شدّد على ضرورة تبرير الأعضاء الذين لم يحضروا جلسات اللجان وتنشر النشرة الداخلية لمجلس النواب الغيابات غير المبررة وفي حالة تغيب العضو لأكثر من ثلاث جلسات متتالية، ودون عذر مقبول عن اللجنة التي ينتمي إليها خلال الدورة نفسها، فإن اللجنة التي يعنيها الأمر تحيط رئيس المجلس علما بتغيباته، وبعد استفساره من قبل رئيس المجلس، واستشارة المكتب يعتبر النائب المعني بالأمر مستقيلا من تلك اللجنة، ويعمل الفريق الذي ينتمي إليه على تعويضه، ويعلن رئيس المجلس عن هذا القرار في الجلسة العامة وينشر في الجريدة الرسمية.
أما اللائحة الداخلية لمجلس الشعب المصري وفي المادة 364 من الفصل الرابع، فقد أقرّت بعدم جواز غياب العضو لأكثر من جلسة واحدة للمجلس، أو اجتماعين متتاليين للجنة، إلا إذا حصل على إجازة أو إذن من المجلس لأسباب تبرر ذلك، ولا يجوز طلب الإجازة لمدة غير معينة، وإذا تغيب العضو عن حضور جلسات المجلس أو لجانه بغير إجازة أو إذن، أو لم يحضر بعد مضي المدة المرخص له فيها، اعتبر متغيبا دون إذن ويسقط حقه في المكافآت عن مدة الغياب، ويعرض رئيس اللجنة على رئيس المجلس شهريا ـ وكلما رأى رئيس اللجنة ضرورة لذلك ـ تقريرا عن حضور أعضاء اللجنة وغيابهم.
إذاً فالمسألة عند أشقائنا العرب، ليست محل استهانة فهي تتقدم نحو اعتبار العضو المستهتر بالحضور«مستقيلاً»في بعض الحالات أو «تجريصه»بنشر اسمه في وسائل الإعلام، على أنّ هذا الرجل، هو عضو في المجلس بالاسم فقط، لأنه لا يحضر الجلسات. بل إن الدول العربية التي لا يوجد في قوانينها ما ينص على نشر أسماء المتغيبين عن حضور الجلسات في وسائل الإعلام، بدأت تطالب بذلك بقوّة كما في مصر، حيث تركّز وسائل الإعلام هناك ومنذ سنوات على هذا المطلب المهم للناخبين.
ثلاثة أضعاف وأكثر
حادثة طريفة يذكرها، أحد أعضاء مجلس الشعب في الدورة الماضية (من غير أصحاب المال)، قال: في الجلسة الأخيرة لمجلس الشعب حضر الجميع تلك الجلسة، والطريف أنني فوجئت باسم زميلي، الذي يفترض أنّ ألتقي به منذ أربع سنوات باستمرار..تصوّر لم أسمع باسمه من قبل، ولا أعرفه".
«دخول المجلس بالنسبة لمعظم رجال الأعمال، أصبح موضة يستكمل بها بريستيج النجاح»، كما يعلّق رجل الأعمال بشّار العاش. وهذا ربما يشرح تهافت هذه الطبقة إلى التسابق للتظلل بقبة البرلمان،وهو ما يجعلنا نلفت النظر أيضاً، إلى أن عدد أعضاء المجلس من التجّار والصناعيين والمستثمرين في الدورة التي مضّت، فاق العدد المعلن رسمياً في سورية، والذي قيل إنّّه (8( أعضاء فقط، إذ يكشف الاطلاع على ذاتيات الأعضاء وتصريحاتهم عن المهن التي يمارسونها، أن العدد الحقيقي، يفوق الرقم المعلن بثلاثة أضعاف على الأقل.
و «ما نخشاه أن يفكّر هؤلاء أنهم يمثّلون التجّار أو الصناعيين في المجلس، لأنّ تركيزهم في المداخلات على قضايا لمصالح قطاع الأعمال، من شأنه أنّ يضر بعلاقتنا كرجال أعمال بالمواطن، ويسيء لسمعتنا»كما يقول الصناعي عصام أنبوبا، والذي يضيف: «نريدهم أن يكونوا ممثلين لكل الشعب فعلاً».
لكن مارآه أمين سر غرفة تجارة دمشق بشار النوري، أنّ «معظم رجال الأعمال كانوا يمثلون أنفسهم، في المجلس، ولا يمثلوننا كزملاء أو ناخبين لهم، فضلاً عن عدم تمثيلهم باقي فئات الشعب».
أمّا رجل الأعمال فراس غازي، فيقول: «لم أشعر أن صوتي الذي قدّمته لهؤلاء قد عاد عليّ بنتيجة، أعتبرها حقاً ثمرة جهد لممثليّ في المجلس من أصحاب الأعمال».
المطالبة بقيلولة للأعضاء
عدد الجلسات التي تم رصدها في هذا التحقيق، كانت الجلسات الممتدة لعامين تقريباً، وبلغت نحو (40)جلسة عامّة، مع ملاحظة أنّ هذه الفترة التي تمّت دراستها، انطلقت من بداية الدورة التشريعية أي عام 2003 وحتى نهايات 2004، وهي فترة السنتين الأوليين من عمر المجلس، وهي ما يفترض، أن يكون العضو مازال فيها حامياً ومتحمسّاً لحضور الجلسات، وتبييض وجهه أمام من انتخبه.
الملاحظ في هذا الغياب أنّه كان متكرراً (دون عذر( ودون انقطاع، أي بشكل مستمر في الجلسات، ووصلت عند بعضهم نسبة الغياب من (80 ـ 90%) إذا احتسبنا عدد الجلسات على المدة المذكورة، لدرجة أنّ (7) أعضاء من هؤلاء الـ(14)الأكثر تغيباً، لم تستطع جلسة مهمّة كالجلسة التي ألقت فيها الحكومة الجديدة بيانها، أنّ تشجّعهم على ترك مشاغلهم الخاصّة والحضور لمناقشة بيان الحكومة.
لا غرابة، كما يعلّق رجل الأعمال بشار العاش «لأنّ المشكلة الدائمة مع ممثلي رجال الأعمال في مجلس الشعب، هي: هل هم مستعدون للتضحية بعلاقاتهم بالوزراء، والتحوّل إلى انتقادهم ومساءلتهم في سبيل إرضاء ناخبيهم؟ أم أنهم حريصون على رضى الوزراء أكثر؟»فكان شعار بعضهم ـ كما يقول أحد الصناعيين ـ هو (يارضا الله ورضا الحكومة).
ولذلك يرى الصناعي سعيد الحافظ أن «علينا التركيز على الشروط الأخلاقية للمرشح في هذه الحالة، بصورة لا تقل أهمية عن مؤهلاته الأخرى».
ولكي تنتهي «قصة»المفاجأة بأسماء وصور لمرشحين من تجّار وصناعيين، لا أحد يعرف عنهم شيئاً، يقترح رئيس غرفة صناعة وتجارة حماة نضال بكور، تشاور أعضاء غرف الصناعة والتجارة في كل محافظة في اختيار مرشحيهم في نقاش علني وشفّاف.
«كيف سنشرح لممثلينا في المجلس، أن هذا الكرسي هو تكليف وليس تشريفاً»، يتساءل الصناعي عصام زمريق؟ويجيبه رأي من صناعي آخر يقول: «عندما يصل اهتمامهم بحضور الجلسات والمناقشات المتواصلة لساعات طويلة، حد المطالبة بقيلولة صغيرة ضمن إحدى غرف المجلس، لأخذ نَفَسهم واستعادة نشاطهم، كما يحصل في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا».
..على الأقل بالنسبة للقيلولة، نحن متطورون أكثر من ألمانيا، التي مازالت مترددة في السماح للنواب «بسرقة»نصف ساعة من وقت الشعب..نحن في هذه النقطة متطورون، ولا نختلف على القيلولة، التي يمكن أن تكون أثناء الجلسات..لكنّ مشكلتنا، هي أنّ يكونوا حاضرين ولو..نياماً.
عكس السير-تشرين
