قبل نحو عقدين من الزمان لم يكن اسم فرسان مالطا يثير أزمة أو حساسية، إذ ربما كان في أفضل الأحوال يشير إلى تراث تاريخي من الماضي البعيد، غير أنه لاحقاً كثرت علامات الاستفهام من حوله، لا سيما مع وجود ممثليات ديبلوماسية له في العالم العربي، ناهيك بنشاطات الجماعة على الصعد الصحية مثل إقامة المستشفيات وغيرها من مؤسسات العمل الاجتماعي.
ولعل اللغط الكثير الذي يثار حول فرسان مالطا يستدعي علامة الاستفهام المتقدمة... هل نحن بإزاء الحديث عن ملائكة أم عن شياطين؟ وهل هم دولة أم منظمة سرية؟ وهل سفاراتهم حول العالم تعد أعين تجسس كما يذهب البعض تعمل لمصلحة الدول العظمي وتذكرنا بإشكالية «لورانس العرب» الذي أتخذ من أطروحته الجامعية في أكسفورد ستاراً زار من خلاله معظم الدول العربية بحجة دراسة تأثير الحروب الصليبية في الهندسة المعمارية الحربية وبذلك حصل على رسوم وتخطيطات لكل القلاع والحصون العربية؟ ربما يجدر بنا قبل البحث المتعمق في «ماهية» فرسان مالطا التساؤل ما الذي يدعونا لفتح هذا الملف من جديد اليوم؟.
الجواب من دون تهوين أو تهويل هو تشابك ما هو سياسي حادث اليوم بما هو عسكري وديني وجرى منذ بضع مئات من السنين... ماذا يعني ذلك؟
الشاهد أن الأزمة السورية الأخيرة، عطفا على الذكرى التسعمئة لإنشاء الجماعة، طرحت علامة استفهام عن مدى علاقة بشار الأسد بجماعة فرسان مالطا التي تحتوي على كوكبة من رؤساء وزعماء العالم. وباتت علامة الاستفهام هل يدعم هؤلاء الرجل الذي يقف وراء النظام السوري بكل الانتقادات الموجهة إليه في العلن من المجتمع الدولي؟ وهل هذا التنظيم من المنعة والقوة كي يساند بشار الأسد فيكف عنه يد التدخل العسكري؟
علامة الاستفهام السابقة تقودنا بدورها إلى عملية بحث تاريخية في الأسماء والأشخاص من ذوي المكانة السياسية المتقدمة الذين حضرت أسماؤهم في سجلات فرسان مالطة. فبجانب بشار الأسد الذي وجدناه يحمل رتبة Royal Order of Francis I وجدنا أسماء بارزة من سياسيي العالم أعضاء وفرسان في هذه الجماعة، ومن القديم إلى الحديث كان «بريسكوت بوش» جد الرئيس الأميركي السابق جورج بوش، وطوني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق، كذلك جورج بوش الابن وإيرك برنس مؤسس منظمة «بلاك ووتر»، عدا عن روكفلر البليونير الأميركي الأشهر، وأثنين من عائلة كيندي الأميركية الشهيرة هما جوزيف كيندي وتيد كيندي أخوا الرئيس جون كنيدي، بالإضافة إلى ملكة بريطانيا أليزابيث الثانية، وخوان كارلوس الملك الحالي لإسبانيا، وفاليري جيكار ديستان الرئيس الفرنسي السابق.
متى تأسست جماعة فرسان مالطا وأي الأهداف تبغي أو تسعى إلى تحقيقها؟.
الحديث عن جذور فرسان مالطا في حد ذاته مسألة علمية بحثية شاقة، وأمر غير متفق عليه، لا سيما لجهة الأصول التاريخية، إذ هناك روايات عديدة وأن كانت كلها ترتبط بزمن الحروب الصليبية. هل منظمة فرسان مالطا هي التجلي المتبقي من جماعة فرسان الهيكل؟
الحديث عن فرسان الهيكل أمر قائم بذاته، فهم ظاهرة من أغرب ظواهر تاريخ العصور الوسطى، وقد عرفوا باسم «جنود المسيح الفقراء» أو «فرسان هيكل سليمان» الذين أصبحوا كنيسة داخل الكنيسة، ودولة داخل الدولة، وكانوا رجال بنوك، وتجاراً وديبلوماسيين وجامعين للضرائب، وقادوا حروباً صليبية ضد الدولة الإسلامية في الشرق.
ومر نحو سبعمئة عام منذ أن حل البابا الكاثوليكي الروماني كليمنت الخامس جمعية فرسان هيكل سليمان، ومنذ ذلك الوقت رويت قصتهم مرات عدة، ومن المحتمل أنها سوف تروي مرات أكثر، ذلك لأنها حكاية تضم جميع عناصر التاريخ الرومانسية، إذ أنها وقعت في أماكن غريبة، وأزمنة عجيبة، وفيها شخصيات تملك أسمي المثل، كما أن فيها أعمق أمثلة الفساد، وتتفشى فيها الأسرار.
ومهما يكن من أمر فإن أحاديث وروايات كثيرة ترى أن المنظمة انبثقت من الجماعة الأم الكبيرة، أي فرسان الهيكل وقد بدأ ظهورهم في مالطا عام (1070م) كهيئة داعمة، أسسها بعض الإيطاليين، لرعاية المرضى في مستشفى القديس يوحنا الأورشليمي قرب كنيسة القيامة في القدس، وظل هؤلاء يمارسون عملهم في ظل سيطرة الدولة الإسلامية بعد طرد الفرنجة، وقد أطلق عليهم اسم فرسان المستشفى أو «الاسبتارية» باللغة الإيطالية تمييزاً لهم عن هيئات الفرسان التي كانت موجودة في القدس آنذاك مثل فرسان الهيكل أو الفرسان التيونون وغيرهم.
وتوسع تنظيم فرسان مالطا، حتى أن الملك لويس الرابع عشر تنازل له في 1652 عن مجموعة من جزر الأنتيل. إلا أن النظام هناك ظل تحت حماية إمبراطور الدولة الرومانية والكرسي الرسولي وفرنسا وأسبانيا، وانتشر سفراؤه في بعض الدول، وهو ما كان يعني «اعترافا بالسيادة الشخصية للسيد الكبير للنظام» أو رئيس الفرسان.
غير أنه بقيام الثورة الفرنسية عام 1789 وغزوها إيطاليا، فقد الفرسان المالطيون ممتلكاتهم وامتيازاتهم في فرنسا وإيطاليا، لينتهي بهم الأمر بفقد مقرهم في جزيرة مالطا نفسها وطردهم منها على يد نابليون أثناء حملته على مصر عام 1798، ثم كان الشتات فتوجه العديد منهم إلى سان بطرسبرغ وبالتالي أصبح نظامهم الكاثوليكي الروماني الذي يحظي برعاية البابا يخضع لقانون الامبراطورية الروسية الأرثوذكسية، وأتجه جزء آخر إلى ماتانيا وفيرارا وروما في إيطاليا. ومنذ عام 1834 ونظام الفرسان يمارس شؤونه من روما بصفة رسمية باسم العمل الخيري وفي نطاق المستشفيات عملهم الأول وقت إنشاء الجماعة.
ما الهدف الذي تسعي الجماعة لتحقيقه في ظل احتفالها بالذكرى الـ 900 لتأسيسها؟
جرى هذا الاحتفال في شهر شباط ( فبراير) الماضي في روما وكان مناسبة لأن يتحدث وزير الخارجية في فرسان مالطا جان بيار مازيري الذي أشار إلى أن جماعة فرسان مالطا تعمل على تعزيز القيم الأخلاقية والاجتماعية وتقدم المساعدات في الحالات الطارئة، وبالتالي تساهم في تحقيق روح التضامن بين الأمم، عبر المساهمة في إرساء السلام حول العالم.
هل هناك مسحة دينية مسيحية ما لعمل فرسان مالطا؟
هذا أيضا يؤكده ماريزي عبر تأكيده أن البعد الديني في فرسان مالطا اليوم لا يزال بالأهمية نفسها التي كان يتمتع بها عندما تأسست هذه الهيئة منذ ما يقارب الألف عام. وهذا يعني أن كل الأعمال الخيرية في فرسان مالطا تنفذ بروح من المحبة المسيحية. وبعض أعضاء الهيئة لا يزالون حتى اليوم يختارون تكريس حياتهم وتأدية وعودهم بالفقر والعفة والطاعة. هذا هو أساس الهيئة كهيئة دينية علمانية. وللهيئة مهمتان هما الاعتناء بالفقراء والمرضى، والعيش بحسب المبادئ المسيحية.
لكن وعلى الجانب الآخر وعبر قراءات بحثية مطولة يبدو أن هناك خيطاً رفيعاً تاريخياً يربط بين الحركات العنصرية التي ظهرت ولا تزال في الولايات المتحدة الأميركية وبين فرسان مالطا الذين قصدوها بعد طردهم من مالطا على يد نابليون كما أشرنا، لا سيما أن وصولهم صادف اندلاع الحرب الأهلية هناك ومولد منظمة «الكوكلوكس كلان» الإرهابية العنصرية التي كانت تدافع عن سيادة الرجل الأبيض ومنع مساواة المواطنين السود مع البيض في الحقوق.
بعض الأوراق والكتب التي أطلعنا عليها تشير إلى أن العلاقة توثقت بين فرسان مالطا الفارين إلى أميركا وبين الكوكلوكس كلان خصوصاً أن الطرفين يقومان على أفكار شبه عقائدية، وقد جسد هذه العلاقات وعبر عنها تنظيم فرسان الكاميليا وهو تنظيم سري نشأ داخل الكوكلوكس كلان تبني مبادئها وكان تنظيمه «الهيراركي» يشبه تنظيم فرسان مالطا، فهناك المارد الأعظم على غرار السيد الأعظم لدي الفرسان، ويعاونه أربعة من فرسان الصقر كما أن طقوس احتفالات فرسان الكاميليا والكوكلوكس كلان تشبه تماماً احتفالات فرسان مالطا إذ يلبسون ملابس بيضاء عليها صليب أحمر ويضعون على رؤوسهم أقنعة لا يظهر منها سوى العينين والأذن والقمه، ويشعلون المشاعل النارية ويزيد أعضاء الكوكلوكس كلان أنهم يحملون الجماجم التي تنبعث منها نيران حمراء بشكل مرعب.
والشاهد أن الحديث المتقدم يختلف شكلاً وموضوعاً عن الرؤية التي قدمها مازيري عن فرسان مالطا، والمفاقة تزداد إذا قارنا بين ما يعلنه عن دور الفرسان في إرساء السلام حول العالم من جهة، وما يشير إليه نفر من الباحثين في شأن الجماعة من ناحية أخرى.
يذهب مازيري إلى أنه بفضل العلاقات الديبلوماسية الثنائية والمتعددة الأطراف، فإن فرسان مالطا يمكنهم الوصول مباشرة إلى الحكومات المختلفة، وبما أن الهيئة لطالما كانت مستقلة، فهي موجودة في جميع أنحاء العالم، وهي تخضع إلى اللامركزية وبالتالي فهي تتضمن تلبية الحاجات على الصعيد المحلي.
ويضيف: «أننا نعمل من أجل تعزيز القيم الأخلاقية والاجتماعية وتقديم المساعدات في الحالات الطارئة. وهكذا نساهم في إحياء روح التضامن بين الأمم وبالتالي نساهم في إرساء السلام حول العالم».
يلفت الانتباه كذلك في تصريحات مازيري قوله: «إننا نملك شبكة ديبلوماسية بشرية ونعمل من أجل أن ننخرط في الأنظمة الوطنية الصحية، ومن أجل تسهيل استيراد المساعدات الطبية. أن حياد الهيئة، ونزاهتها تمنحانها الفرصة لتكون وسيطة ومصالحة في حالات النزاع والتي يصعب على الغير الوصول إليها».
كيف يستقيم هذا الكلام مع التقرير الذي نشرته مجلة The Nation «الأمة» الأميركية منذ بضع سنوات تحت عنوان «جيش بوش في الظل» وفيه كشف الصحافي الأميركي جيرمي سكيل عن الصلة الدينية التي تجمع بين شركات القتل الخاصة في العالم، وينحدر في الوقت نفسه من عائلة جمهورية نافذة في ولاية ميتشغان.
يشير سكيل إلى وجود صلة قوية بين قوات المرتزقة الموجودة في العراق ومنظمة فرسان مالطا وهي تلك القوات التي يسميها الجيش الأميركي المتعاقدين في تمييز واضح عن الجنود الأميركيين الأصلاء، وقد أشار إلى تلك الحقيقة في كتابه «بلاك ووتر» بوصفها ـأكبر الشركات الأمنية التي كانت متعاقدة مع الإدارة الأميركية في العراق حيث أظهر العلاقة الدينية التي تجمعها.
والثابت أنه إذا كان الأمر كذلك فكيف لـ فرسان مالطا أن يحققوا وجودهم في البلاد التي أكثريتها من المسلمين كأفغانستان والعراق وفي ظل كتابات تتناولهم بالقدح لا بالمدح؟ يرى القائمون على مهمات عمل الجمعية المثيرة التي نحن بصدد البحث عن حقيقتها أن الهيئة تعمل في بلدان مسلمة كثيرة، وأنها تحافظ على علاقات ديبلوماسية ثنائية ممتازة مع هذه البلدان. وعلى الأرض يكون الناس مرتاحين أكثر وهم أمام منظمات مرتكزة إلى الإيمان والأمر سيان لنا، إذ من السهل أن يحكموا على نزاهتنا وعملنا، يضيف مازيري ويكمل: «نحن لا نملك أو نتطلع إلى تحقيق هدف آخر سوى تقديم المساعدة. فعلى سبيل المثال في أفغانستان والعراق وسورية، الدين ليس هو سبب المشاكل، إنما النزاعات هي المسؤولة».
وبالبحث والتحري كذلك اكتشفنا أن أعمال فرسان مالطا لا تتوقف عند حدود الدول العربية أو الإسلامية بل تتجاوزها إلى الأفريقية والآسيوية، ففي أفريقيا تعتبر الهيئة نفسها ملتزمة بتقديم المساعدة لضحايا الاعتداءات الجنسية، وهي اعتداءات أصبحت اليوم في أفريقيا سلاحاً للحرب، وقد وضعنا ـ يقول المسؤولون ـ أساليب عدة للمساعدة مثل مساعدة النساء اللواتي ولدن أطفالاً إثر هذه الاعتداءات وفي الأشهر التالية تقديم مساعدات نفسية واجتماعية تسمح لهن بإعادة بناء حياتهن إذ أن معظمهن ينبذن من مجتمعهن. كما ونقدم لهن مساعدة تربوية ليتمكن من مواجهة مستقبلهن بثقة.
وفي الذكري التسعمئة لإنشاء فرسان مالطا نتساءل: هل هناك عملية إعادة إحياء لدور ورسالة الجماعة بغض النظر عما إذا كان أعضاؤها ملائكة أم شياطين؟
الإحياء الحقيقي للجماعة جرى في أواخر الثمانينات من القرن الماضي مع انتخاب الأمير أندرو برتي عام 1988، وفي أوائل كانون الأول من عام 1990 عقدت منظمة فرسان مالطا اجتماعاً في جزيرة مالطا هو الأول من نوعه منذ أخرجهم نابليون بونابرت منها قبل قرنين، وكان الاجتماع مثيراً للغاية كما قال روجر جيورجيو أحد أولئك الفرسان الذين اجتمعوا في الجزيرة وبلغ عددهم نحو خمسمئة ينتمون إلى أثنين وعشرين دولة. ولوحظ أنهم اعتبروا هذا اللقاء خطوة باتجاه إحياء تلك المنظمة. حتى أنهم قرروا بعد جولة واسعة في القلاع والقصور والتحصينات التي أقامها أسلافهم التفاوض مع الحكومة المالطية لاستئجار واحدة من تلك القواعد في ميناء فالتا ـ العاصمة ـ ليتخذوا منها مركزا لنشاطهم.
في هذا اللقاء تحدث «الأمير والأخ والقائد» أندرو برتي بالقول: «نحن لا نخفي شيئاً، فنحن منظمة دينية قديمة ولنا تقاليدنا وشعائرنا لذلك فالجانب البروتوكولي والديبلوماسي بالنسبة إلينا غاية في الأهمية ونحن نبذل جهدنا لتقديم العون للمحتاجين...» ولعل ما هو غير معروف أن «الأخ» برتي رحل عن عالمنا وأن الهيئة تسعي إلى تطويبه. والتطويب هو المرحلة الكنسية التي تسبق إعلان القداسة، ما يدلل على أهمية الدور الذي لعبه في سياق إعادة فرسان مالطا إلى خريطة العمل الدولي بعد تسعمئة عام من إنشائها وأن بقيت أسئلة كثيرة في الأفق معلقة في شأنها حتى الساعة. (إميل أمين - الحياة)
عكس السير