إعلانات
عندما تحج القيقان وترجع بلا سيقان.. محاولة لفهم المعنى .. بقلم المهندس تميم قاسمو
السبت - 26 حزيران - 2010 - 7:23 بتوقيت دمشق
التفاصيل

يذكر من عاش طفولته في أحياء حلب القديمة كيف كان الأطفال يرمون "القيقان" المتجمعة على أكوام الزبالة بالحجارة حتى تطير فزعة ويطاردونها إلى أن تختفي عن الأنظار وهم يهزجون :

(قاق قاق ، نشال الصابون ، أمك الحرامية ، وأبوك المجنون).

تبدو هذه الأرجوزة ضرباً من هذر الأطفال، فكيف نتهم مخلوقاً أعجم ونهينه وهو لا يفقه معنى تلك الإهانة؟

ولو افترضنا أنه كائن عاقل فإن تهمة "نشل الصابون" لا يمكن أن تصمد أمام المنطق البسيط، فالقاق لا يأكل الصابون ولا يستخدمه.‏

يحسن بنا ألا نتسرع في الحكم، فمقاصد العامية بعيدة الغور يحتاج فهمها إلى تأمل وصبر، وهي توضح ذاتها بذاتها حين تعطي تفسيراً لهذا الاتهام العجيب فتجري حواراً مع "القاق" نصه ما يلي:

(سألو القاق ليش بتنشل الصابونة ، قال : الأذى طبع) .

و العامية هنا وهي تُعنى بتفسير مضمون الأرجوزة تؤكد أنها ليست هذر أطفال بل هي نص يستحق الانتباه والتحليل.

ولو عدنا مجدداً إلى الأرجوزة و قرأناها بتعمق لوجدنا أنها تصف حالة فساد مستحكم فأم "القاق" سارقة وأبوه مجنون ، أي أنه قد تشرب طبع السرقة من أمه وأخذ خفة العقل إرثاً عن أبيه.

وقد يثير عجبنا اختيار العامية الصابون دون غيره ليسرقه القاق، ولكنه عجب يزول إذا ما تذكرنا أن الصابون هو رمز الطهارة والنظافة معاً .

والأرجوزة تتحدث عن قاق نجس متمرغ في القذارة إلى درجة أن يسرق رمز الطهارة ذاتها.

 فتعبر عن حالة لا يكون فيها الفساد احتياجاً وإنما نكاية وتلذذاً، حيث يدمر مقترفه ما يخالفه لأنه يسمو فوقه، وهكذا تبدو الأرجوزة بعد جلاء معانيها نصاً فريداً يصف كائناً فاسداً مفسداً معاً.‏
 
وتمضي العامية في تأكيد هذا التفسير عندما تصف الوعد المستحيل التحقق بأنه سيحدث :

(عندما  تحج القيقان وترجع بلا سيقان ) .

وهنا تستخدم العامية عناصر الفساد المتأصلة في "القاق" بصورة هازلة ، لأن حج "القيقان" الفاسدة الطبع أمر محال ، وإذا حدث وحجت فلا يمكن أن تعود بدون سيقان.

و بذلك تبدع صيغة مركبة للتعبير عن المستحيل تستمدها من فساد "القيقان" الذي يستحيل صلاحه.‏
 
يظهر لنا تماما ونحن نستعرض المأثورات العامية التي تتحدث عن "القاق" أنها تتحدث عن كائن بشري منحرف، وليس عن طائر مسكين يلتقط ما يقيم أوده من أقذر الأماكن ويتعرض في سبيل ذلك للمطاردة والأذى ، فهي إذن عندما تهجو "القيقان" بلسان الأطفال إنما تسقط عليها نفورها من نموذج إنساني وجدت في شخصية القاق ما يماثله طباعاً وشكلاً .‏

ولو افترضنا_من باب الجدل- أن العامة تكره القيقان لذاتها لكان علينا أن نبحث في القيقان عن صفات سيئة تختص بها من دون الطيور جميعا وهو بحث لا نتيجة له .‏

فلقد سألت كثيراً من الناس عن سبب كراهيتهم "القيقان" فكانت إجاباتهم تدور حول أن "القاق" نشال وأن صوته مزعج وأن منظره مشؤوم لسواده ومنقاره الضخم وساقيه الطويلتين .

ولكني تساءلت وأشركتهم في السؤال : هل ينفرد "القاق" بهذه الصفات؟

ومن من الطيور يستأذن قبل أن يخطف رزقه من بيدر الفلاح أو ينتشله من أمواج البحر أو أعشاش الطيور الصغيرة ؟

وهل القاق فريد بين الطيور في الصوت المزعج ؟ وهل .. وهل ؟ وما العيب في السواد ؟ وما الخطأ في منقاره وسيقانه ؟

إنها دليل قوة ومقدرة وليس علامة ضعف واستخذاء.

لكن ما لفت نظري في الإجابات أنها كانت كلها تذكر إلى جانب الصفات الشكلية صفات معنوية أيضاً مثل نجاسته وولعه بالنشل وغدره بالطيور التي تقل عنه حجما وقوة.

وهنا بدا لي أن ما تكرهه العامة في "القاق" فعلا هو التناقض بين مظهره ومخبره ، فهو يحارب الطيور الصغيرة في أرزاقها في حين أن قوته تتيح له أن يحصل على صيده عنوة واقتداراً وينتزعه من مخالب الطيور التي تماثله قوة .

وهو لا يحلق بجناحيه الكبيرين في الأعالي وإنما يحوم بهما متنقلاً من "خرابة " إلى "مزبلة" إلى مقبرة، إنه طير حباه الله أسباب القوة فجعلها سبيلاً إلى الانحطاط والسرقة والرذائل.

ولقد جعلت العامية من "القاق" المسكين صورة للإنسان الذي ينحط بفعله ويتمرغ في الفساد وهو قادر على فعل الصواب و طلب الكمال .

ومن يتأمل "القاق" يجد ان العامية قد وُفقت في اختيارها، فللقاق صفات لو وجدت في الإنسان لعبرت عما هو سام وجليل ، إن صدره المنتفخ هو في الإنسان قوة وكبر، وتبختره في مشيته ثقة وفخار، ومنقاره الكبير هو في الإنسان دليل على العز والشمم، ولونه الأسود هو رمز المناسبات الجليلة ورداء الرجال العظام، أما مكره و احتياله فلو توفرا في الإنسان لكانا ذكاءً وحسن تصرف .

لكن الإنسان الفاسد يتصرف بتلك الصفات كما يتصرف القاق تماما بل وأكثر.‏

 

 

 
ولقد توسعت مدينة حلب و انتقلت مزابلها إلى أطرافها فتشردت القيقان وقل عديدها في أنحاء المدينة ولا نجد اليوم بين أطفالنا من يردد أرجوزة القيقان بل إن معظمهم لم يعد يميز بين القاق والعصفور الدوري .‏

 نعم لقد رحلت صورة القيقان وغابت أرجوزتها، لكن الأصل الذي قصدته الأرجوزة ما زال يتقافز بيننا مختالاً، انه لم يرحل .

 المهندس تميم قاسمو


التعليقات :
العبار
(0)   (0)
***
ولكني اريدك ان تتعمق في حياة هذا الطير الذي ظلمته في مقالك هذه
فالقاق هو ما تعنيه الغراب
*************************
فنظام حياته لا يقوم على غدر او خيانة
الغراب في مجموعته
ان اعتدى على عش غيره
جلبوه وحاكموه ونتفو ريشه
وان اعتدى على انثى غيره
يحاكم ويجتمعو عليه ويقتلوه وياخذه اثنان من الغربان ويدفنوه
وهو الطير الوحد الذي يدفن ميته وهذا ما ذكر في كتاب الله
والغراب اكثر وفاء من الانسان
فهو لا يتزوج غير انثاه ابدا الا في حالتان الاولى ان لم يفقس بيضها فهذا حفاظا على جنسه
والثانية اذا ماتت انثاه
اذا هو لا يعتدي *********ابحث في حكاية هذا الطائر
فهو ذكي وليس مجنون
لا نريد ان ندخل في جدل فحين تبحث عن تركيبة حياة هذا المخلوق تجد انك ظلمته ساعتها ستعيد له حقه في مقال آخر تنصفه في الوصف
اشكرك كل الشكر على تقبلك مني
أبو أحمد
(0)   (0)
مقال حلو ... تسلم أيدك
وائل
(0)   (0)
لك تسلم ع هالمقال الحاو
ريما
(0)   (0)
كل التأييد للأخ العبار... وإن الكره العام لهذا الطائر هو آت من الجهل العلم لنظام حياته بالإضافة لمعتقدات جاهلية حول الشؤم وماإلى ذلك من لونه الأسود وصوته المزعج...
محمد أرمنازي
(0)   (0)
لا ادري ان كان العيب بجنس القيقان ذاتهم أم بالذي كان يأمرهم. على كل حال فقد تعهد مؤخرا أحد القيقان بتحسين سمعتهم بعدم سرقة الناس , ولكن لا يبدو انه صوته مسموع بين قومه, أو ان قومه اعجبتهم هذه المهنة و ليسوا مستعدين لتغييرها..
حلبي01
(0)   (0)
الغراب طائر مظلوم في هذه المقالة
الغراب كائن شديد النظام يعيش في مجوعات تربطهم علاقات اجتماعية ولدية كبير المجموعىة الذي يحكم بينهم و يصدر القرار النهائي في الخلافات
وهو يقوم بدف موتاة في التراب
تميم قلسمو
(0)   (0)
الغرض من المقال هو البحث عن صورة القيقان في المخيال الشعبي وهي صورة تكونت من مجموعة من الممارسات التي اعتبرها الناس شائنة كمنافسة الطيور الأقل منه قوة والعيش على الجيف وارتياد الخرائب والمزابل والمقال يهدف إلى الوصول إلى القيم التي يؤسس العامة عليها أحكامهم بناء علي تحليل مأثوراتهم.
إن منهج البحث يعتمد على تحليل الصورة التى تحتوي عليها المأثورة إلى عناصرها الأولية ثم تحليل عناصر الحالة التي يجري فيها التمثل بالمأثورة ومن ثم المقابلة بين عناصر الصورة والمثل لإيجاد العوامل المشتركة . إن معرفة هذه العوامل هي الغاية من مثل هذا البحث ،بل هي في رأييي الغاية من الاهتمام بالمأثورات الشعبية باعتبارها أساساً لعلم الأنتروبولوجيا (علم الإنسان). وليس باعتبارها مادة للتندر.
أما أن القيقان مظلومون وأن لهم صفات جيدة فهذا أمر مؤكد،لكن البحث ليس بحثاً في صفات القيقان وإنما في صفات الإنسان إنطلاقاً من نظرته إلى القيقان .
شكراً للسادة المعلقين وكان بودي لو صرحوا عن أسمائهم كي أشكرهم شخصياً.
مزعوزة
(0)   (0)
تحليل جميل ومقال لا يخلو من الطرافة..
سامر
(0)   (0)
الكاتب يشرح عن نظرة الناس الى القاق وليس عن وجهة نظره
أحمد الحلاق
(0)   (0)
بصراحه انا متابع يومي لعكس السير من زمان وهي أول مرة بعلّق ع مادة بالموقع بصراحة تحليل جد رائع وموهوب وأتمنى أن نفهم المغزى وأن نحارب القيقان ليس بشكل مباشر فحسب انما بشكل غير مباشر أي أن لا نوفر البيئة المناسبة للقيقان للمارسة هوايتها بالفساد والمزابل برأيي هم من يساعدون القيقان على الفساد ويوفرون لهم الجو المانسب للنمو
شكرا تميم
مازن علي
(0)   (0)
اسمع كثيراً عن اسمك اللامع ... و اسمع اخبارك من المقربين و العاملين
و هاقد قرأت مقالاً لك ... ترى متى سأتعرف عليك شخصياً ...

التحية كل التحية لك استاذ تميم

مازن سابق علي
مهندس مغترب
(0)   (0)
و ماذا عن الحديث النبوي الذي يأمر بقتل الغراب اينما وجد
ءاء
(0)   (0)
الغراب بالحلبي ءاء
وليس قاق

لقد اعتدى اهالي حلب حتى على الغربان

وسبب تسميته نشال الصابون هو ان اهالي حلب كانو يسرقون من بعضهم البعض الصابون وعندما بلغ الامر الوالي قاموا بوضع الصابون في عش الغراب (الـ ءاء) حتى لا ينفضح امرهم
وهكذا اتهم البريء و فرّ الجاني
كما ان هناك رواية تقول انه عندما كان النشالون يصعدون الى مناشر تبريد الصابون كان الغراب يصيح فقامو بتدبير هذه المكيدة له كي يتم طرده من المجتمع.
ولم ننس ان الغراب كان القدوة في تعليم الانسان دفن الميت.

ابو حلب
(0)   (0)
القاق بقاقي ولا بقيقي.
كاسر جوخه دار
(0)   (0)
أحييك على هذا المقال والمقصود منه قدنم فهمه، كما أحب أن أحييك مرة أخرى على قوة وفصاحة لغتك العربية الجميلة فعلا وعلى أسلوبك في الكتابة وتعبيركالجميل والذكي، وأتمنى أن أقرأ أسمك دائما تحت هكذا مقالات جميلة مع تحياتي.
عمر حايك
(0)   (0)
شكرا استاذ تميم قاسمو على ماقدمته من معلومات التي كان اغلب الناس لايعرف عنها الا القليل
y
(0)   (0)
هالحكي مو مظبوط الزلمة مافي منو والله
رشا
(0)   (0)
المقال جميل بسبب طرافته والحقيقه اننا مللنا من قصصص الاجرام التي بتنا من غرابتها في مجتمعاتنا نظنها خياليه,فشكرا لك يا أستاذ تميم
YASSER K
(0)   (0)
أود أن اتقدم بشهادة شكر و إعجاب و إحترام إلى المهندس تميم وإلى ثقافته الواسعة وأسلوبه الرائع في صياغة مقالاته و محاولته على إحياء القديم و الحفاظ على تراثنا العريق
أضف تعليقك :
الاسم : *
التعليق : *
Keyboard لوحة مفاتيح عربية
ضع الكود الموجود بالصورة : *

مقالات أخرى من " ع البال "

24-1-2015
" برغر كينغ " ترفض تعويض الطفل السوري الذي ضربه أحد مدرائها في اسطنبول .. و الأخير يحاول إسكات والد الضحية بـ 100 ليرة !
رفضت الشركة التي تمتلك ترخيص سلسلة مطاعم "بيرغر كينغ" في تركيا تعويض الطفل السوري الذي تعرض للضرب على ...


15-4-2013
بعد ظهوره في "أراب آيدول".. صفحة إخبارية "مخابراتية" تهدد عائلة الفنان عبد الكريم حمدان
  نشرت صفحة إخبارية مؤيدة للنظام السوري على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" منشوراً هدّدت فيه الفنان عبد الكريم ...


7-6-2012
عرض أول جهاز أنتجته شركة أبل للبيع
أعلنت دار "Sotheby" للمزادات عن نيتها طرح أول جهاز كمبيوتر أنتجته شركة أبل للبيع في مزاد يُقام في ...


3-11-2011
حديقة العزيزية (مرعي باشا الملاّح) والحديقة العامة بحلب
تمهيد: إنّ التقرير الذي قدّمه الى المجلس البلدي بحلب المهندس الاستشاري شارل غودار، عضو المجلس البلدي ومدير سكة حديد ...


28-9-2011
زقاق الأربعين ووثيقة آل دلاّل و الشاعر جبرائيل دلال (1836 – 1892) من أوائل شهداء الحرية
في محاولة لربط الزمان بالمكان وبالحدث الذي يفعّله الإنسان سنحاول ان ننقل خطواتنا في النصف الثاني من القرن ...


18-8-2011
سر البيلون الحلبي
كتب المرحوم الدكتور عبد الرحمن الكيالي مقالة في مجلة الحديث الحلبية تساءل فيها : هل كلمة ( بيلون) ...


13-8-2011
صناعة صابون الغار في حلب تلفظ أنفاسها الأخيرة
في عام 1999 ظهرت المواصفة القياسية السورية لصابون الغار ، التي حددت نسبة زيت المطراف فيه بخمسين بالمئة ...


10-8-2011
عيدو السواس و عيدو التنكجي مؤسسا فرقة نجمة سورية أول فرقة مسرحية بحلب
نشر الاستاذ  أحمد نهاد الفرا مقالة مطولة في مجلة العمران  (التي كانت تصدر عن وزارة البلديات فترة الوحدة ...