إعلانات
بعد تجربة مريرة في سوريا .. تغطية الحروب لم تعد تستحق المجازفة ؟ !
الاثنين - 1 أيلول - 2014 - 10:43 بتوقيت دمشق
التفاصيل


قبل حوالي سنة ونصف، وجدت نفسي في غرفة جلوس في مجمع سكني فاخر يطل على الشاطئ في نايبلز بفلوريدا. كنت عائدًا إلى بيتي في الولايات المتحدة لزيارة، بعد أن أمضيت سنتين في تغطية الشرق الأوسط كصحفي. وكنت أجري مع عائلتي جولات استجمام جلبتنا إلى هذا المكان الفخم، الذي يملكه أقارب صديق أخي الأثرياء. تأملت أن أستمتع بالمنظر ببساطة، لكنني حوصرت بالأحاديث والدردشات. مستضيفتنا سألتني أين أعيش، فأجبت: “في بلدة صغيرة جنوب تركيا”. بطبيعة الحال، سألتني ما الذي أفعله هناك. “أنا صحفي أغطي سوريا”. دون أدنى تردد، سألت بعنف: “إذن، هل تغطيتك صادقة؟”. لقد أقحمت السؤال بطريقة قد تستخدم لمواجهة مصارع أمريكي حول ما إذا كان ما يحصل على الحلبة حقيقة أم تمثيل. كلنا نعرف أن الأمر مختلق. اعترف بذلك. استمرت بالضغط علي، قائلةً إنها على يقين بأن الإعلام لا يقول القصة كاملة، ومطالبةً بأن تعرف سبب ذلك. كانت تعرف أن الرئيس بشار الأسد سيء، لكن من هم بالضبط المعارضون؟ (كان ذلك في ديسمبر 2012، حين كان للمعتدلين وزن في المقاومة السورية). “كتبت تقريرًا عن هذه المسألة بالتحديد قبل أسبوع من مجيئي”، قلت لها. كان هنالك أيضًا مقال عن الموضوع ذاته في صحيفة النيويورك تايمز لذلك اليوم، التي كانت ملقاة على طاولتها. أشرت إلى الصحيفة وقلت “بوسعك أيضًا قراءة مقال مطوّل يجيب عن هذا السؤال في صحيفة اليوم”.

كان جيمس فولي أحد الذين كتبوا ليجيبوا على هذا السؤال. أحد آخر المقالات التي كتبها لموقع غلوبال بوست، في أكتوبر 2012، شرح الشرخ المتعاظم بين مقاتلي المعارضة والمدنيين في حلب. بعد وقت قصير من إرسال ذلك المقال، اختطف فولي ليبدأ أسرًا دام أكثر من 600 يوم انتهى بإعدام الدولة الإسلامية له ونشرها فيديو يوثق ذلك في 19 أغسطس الحالي. لطالما تساءلت بشأن المخاطر التي يتحملها الصحفيون، بما فيهم أنا، ليغطّوا الحروب. عقب موت جيم، باتت هذه الأسئلة تجثم على صدري أكثر من أي وقت مضى. بعد أن قضيت سبع سنوات في العمل في الشرق الأوسط وأفغانستان، عدت إلى الولايات المتحدة في أكتوبر الماضي، وهذه المرة بقيت هناك. في الشهور التي تلت ذلك، قابلت عددًا لا يحصى من مستهلكي الأخبار كتلك المرأة في فلوريدا، محاصرين في مبانٍ شاهقة وفاخرة، ومحاطين بمعلومات يرفضون تلقيها أو التفكير فيها. لم يبغض الأمريكيون الصحفيين في أي وقت مضى مثلما يبغضونهم الآن. التغطية السياسية، التي عادة ما تكون الأكثر جدليةً والأكثر تأثيرًا على التصورات عن الصحافة بفضل موقعها البارز، بقيت متوازنة بشكل ثابت، كما أظهر تحليل واسع لعقود من تغطية حملات الانتخابات الرئاسية أجراه البروفيسور ديفيد داليسيو من جامعة كونيتيكت. لكن القراء مقتنعون بالعكس. في استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للبحوث عام 2011، قال أكثر من ثلثي المستجيبين إن الأخبار عادة ما تكون غير دقيقة. حوالي الثلث قالوا إن وسائل الإعلام الإخبارية “غير مهنية”. ووصف 42% وسائل الإعلام بغير الأخلاقية، بينما رأى 38% فقط أن مهنة الصحافة هي مهنة أخلاقية. كوني كنت أعمل بعيدًا عن الولايات المتحدة، نادرًا ما فكرت في كيفية تلقي الناس للأخبار. في الحقيقة، لم أتخيل يومًا أن الناس يقبلون بنهم على تغطيات بلدان أخرى. كنت أفترض أن معظم الناس لا يبالون بالأمر، لكنني كنت أعزّي نفسي بفكرة أن مهنتي توفر أرشيفًا عامًا متاحًا في أي وقت إذا قرر أحدهم تخصيص وقته للتعرف على قضية ما. فوق كل ذلك، عملت كصحفي لأنني أحببت الصراع اليومي. ولعل هذا السبب هو ما جعلني أقتنع بأن الأمر يستحق العناء حتى حين تسوء الأوضاع، كأن أعلق وسط غارة جوية، أو أرى الشاحنة التي أمامي مباشرة تتفجر بفعل عبوة ناسفة.

في نوفمبر 2012، كنت أغطي الأحداث في حلب، أكثر مدن سوريا ازدحامًا. في ذلك الوقت، كان النزاع لا يزال في مراحله الأولى. لم تكن الدولة الإسلامية قد شُكّلت رسميًا بعد، وبشكل عام كان مقاتلو المعارضة المعتدلة متعاونين مع الصحفيين، ويساعدونهم على الوصول إلى خطوط النار. عندما انتشر خبر سيطرة المعارضة على مستشفى مهم استراتيجيًا في محيط المدينة، خرجت مع ثلاثة صحفيين آخرين ومترجم واستقللنا ظهر شاحنة لأحد الثوار لنرى الحدث بأنفسنا. لم يكن المشهد في المستشفى جديدًا على الحرب الأهلية السورية. كان القتال قد انتهى وكل ما تبقى كان ثقوب الرصاص والزجاج المحطم والمؤن الطبية المنهوبة، فيما يستعرض الثوار سعيدون بالتقدم الذي أحرزوه. دعانا مقاتلو المعارضة لمرافقتهم وهم يستمرون في محاولة تحقيق المكاسب ويقاتلون للاستيلاء على تلة في قرية قريبة موالية للنظام. رفضنا الدعوة لمشاهدة ما توقعنا أنه سيكون حتمًا (ولاحقًا كان بالفعل) معركة دموية قاسية. فيما كنا عائدين إلى المدينة، محشورين هذه المرة في سيارة صغيرة، استوقفتنا سيارة أخرى، ليندفع منها رجال ملثمون يوجهون كلاشينكوفاتهم إلينا. للحظة، لم أشعر بشيء. كان المشهد يشبه أي مشهد اختطاف مأخوذ من أفلام الإثارة التي تابعتها. لكن بعد أن اختفت الصدمة الأولى تذكرت ما حصل قبل بضعة شهور، حين تعرفت مجموعة موالية للنظام على الصحفية اليابانية في حلب، ميكا ياماموتو، وأردتها قتيلة. حينها انتظرت الطلقات التي ستنهي حياتي. لكن عوضًا عن ذلك، سحب المسلّحون سائقنا من السيارة ودفعوه إلى سيارتهم، فيما كان مسلح آخر يقفز خلف مقود سيارتنا وينطلق بها. فكّرت في القفز من الباب، ظانًا أن التدحرج من سيارة مسرعة أفضل من الانتظار لمعرفة ما ينتظرنا في نهاية الطريق. لكن نظرًا إلى أن السيارة كانت تقطع شوارع المدينة بسرعات جنونية، متبوعةً بسيارة آخرى محمّلة بالمسلحين، كان الهروب مستحيلًا. ارتخيت في مقعدي، مدمرًا بفكرة أنني أهدرت حياتي. هذا ليس بلدي. هذه ليست سيارتي. والآن سأموت لأجل ذلك بطريقة مروعة. في أفضل السيناريوهات، سأعتقل إلى ما لانهاية. لكن لحسن حظنا أنا وزملائي، كان قدرنا مختلفًا تمامًا. لأسباب ما زلت لا أفهمها، أُخذنا إلى قاعدة خاطفينا، وأعطينا طعام الغداء، وقيل لنا ألا نقلق: لقد كان مجرد سوء تفاهم. بعد بضعة ساعات عصيبة، ساقوا بنا إلى كشك قهوة على الطريق واشتروا لنا المشروبات، ثم أنزلونا في مكان آمن نسبيًا من حلب.

بعد قرابة شهر، كنت جالسًا في كرسي واسير في ذلك المبنى الفخم في فلوريدا، أستجوَب حول المعايير الصحفية. لقد دمّرت تغطية الحروب لبلد مستقطب المهمة المدنية التي كنت أراها يومًا في الصحافة. لماذا يجب أن أخاطر بكل شيء لإيصال الحقائق لأناس يبدو بازدياد أنهم يبحثون عن المعلومات التي يريدونها ويصفون الحقائق والقصص التي لا توافق آراءهم بأنها منحازة أو غير دقيقة؟ ودون أن يكون لها هدف أسمى، ما الذي يتبقى من الحياة المهنية لصحفي؟ قد تكون الصحافة معدودة على ما يسمى “مهن الشهرة” التي يلاحقها الخريجون الجدد، لكن أحد مواقع المهن صنّف مراسَلة الصحف على أنها ثاني أسوأ مهنة في أميركا، بناءً على معايير كالضغط، الأجور، وانعدام اليقين الوظيفي. أن تكدح كآذن أو منظف أواني أو جامع قمامة كان أعلى مرتبة بحسب التصنيف. حتى لو كنت تحب عملك، فمن الصعب ألا تنهكك المهنة التي تتطلب أحيانًا أن تجازف بحياتك من أجل قراء يتساءلون إذا ما كنت قد مررت بكل هذه المعاناة والمخاطر من أجل تحقيق أجندة خفية ما. قابلت جيمس فولي مرة أو مرتين خلال عملنا في الشرق الأوسط، لكنني عرفته بشكل أساسي من خلال سمعته: شاب ودود وهادئ يمكنه أن يجعل الناس تضحك حتى في أسوأ الظروف. الآن وقد رحل، أتمنى لو كنت قادرًا على الاعتقاد بأن شخصًا استثنائيًا كهذا قد مات وهو يناضل لإعلام جمهور أمريكي يتحرق لمعرفة الحقيقة. الأصعب هو أن أقبل ما حدث فعلًا، وهو أنه مات فيما الناس يشكلون بحماس آراءً عن مهنته والمواضيع التي غطاها دون أن يتكلفوا عناء قراءة القصص التي وضعها أمامهم.

 

* توم أ. بيتر هو صحفي حر غطى الشرق الأوسط وأفغانستان لسبع سنوات. يكتب الآن حول أمن الحدود والهجرة كزميل في منحة روبرت نوفاك للصحافة. ( ترجمة : دعاء علي - حبر )

عكس السير


أضف تعليقك :
الاسم : *
التعليق : *
Keyboard لوحة مفاتيح عربية
ضع الكود الموجود بالصورة : *

أخبار أخرى من " مقالات وآراء "

11-3-2015
الأسد بمساعدة حلفائه .. يبدو أنه باق !
يبدو ان فرص نجاة بشار الاسد من الازمة السياسية سالما باتت أكبر من أي وقت مضى منذ بدئها ...


11-3-2015
سوريا .. لا حل إلا هذا الحل !
  يتحاشى الذين يروِّجون لضرورة الانفتاح على بشار الأسد ونظامه، وعددهم قليل على أيِّ حال، تذكُّر أن قرار دمشق ...


10-3-2015
هل علينا التصالح مع الأسد ؟ !
مع ارتفاع وتيرة قتال الإيرانيين وحلفائهم إلى جانب قوات نظام الأسد، وتولي الإيرانيين أيضا قيادة حروب القوات العراقية ...


8-3-2015
أضعف الإيمان .. إسقاط الدولة السورية !
تصريحات الغربيين في الخلاص من النظام السوري تبدلت. الارهاب في سورية عاود صوغ المشهد. بعض الدول الاقليمية بات ...


7-3-2015
سياسة شرق أوسطية جديدة من دون الإخوان
لم أطلع على محضر اجتماعات العاهل السعودي بالرئيسين التركي والمصري، ولكني مستعدّ لأن أجزم بأن «الإخوان المسلمين» لم ...


7-3-2015
أميركا و الخليج .. من طمأن الآخر ؟
قراءة التصريحات السعودية، على لسان وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، وتصريحات نظيره الأميركي جون كيري، حول إيران، تقول ...


7-3-2015
هل الاحتلال الداعشي حرام و الاحتلال الإيراني حلال ؟
كي لا يحاول أحد أن يصطاد في الماء العكر من مجرد قراءة عنوان المقال، سنقول: تصدوا كما تشاؤون ...


6-3-2015
هل تدعم الإمارات بقاء نظام " الأسد " في حكم سوريا ؟
ربما تكون القضية الأقل خلافا بين دول المنطقة وفي مقدمتها تركيا وقطر من جهة والسعودية والإمارات وبقية دول ...


6-3-2015
من يخشى من تغير السياسة السعودية ؟
أصبحت مسألة تغيّر السياسات السعودية حيال المشاكل التي تعاني منها منطقة الشّرق الأوسط، من أهم المسائل التي تتداولها ...


4-3-2015
مخاوف من صفقة " أميركية - إيرانية " !
أي اتفاق بين الدول الست وإيران حول ملفها النووي إذا تم رغم الصعوبات التي ما زالت موجودة بالنسبة ...


3-3-2015
سورية ولاية إيرانية ؟
بدأ نظام الملالي في إيران مدّ جذوره الطائفية نحو سورية، إذ استطاع أن يتحكّم بمفاصل حياة السوريين اليومية، ...


3-3-2015
الأزمة السورية إلى حل سياسي
رفض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وصف موقف مصر من الأزمة السورية بالحياد. وهو قال في حواره مع «الشرق ...


3-3-2015
آخر مسيحي في الشرق الأوسط
يبدو السؤال مشروعا ومنطقيا وواقعيا حين يطرح: هل نحن نعيش حقبة تفريغ الشرق الأوسط من سكانه وأهله وشعبه ...


3-3-2015
خياران كلاهما سهل
في الأسابيع الماضية استقبلت الرياض عددا قياسيا من زعماء العرب والعالم. سواء كانت الغاية للتعزية أو للتهنئة، لم ...


1-3-2015
فشل دي ميستورا
المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا نجح في شيء واحد فقط، زيادة غضب أغلبية الشعب السوري. بدأ ...


1-3-2015
الحل في سوريا أكبر من الأسد و خصومه
عندما أعلن المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، أخيراً، أن بشار الأسد «جزء من الحل» في سوريا، ...