إعلانات
حيّ على إحياء ذكرى مجزرة الكيماوي .. و الغياب
الخميس - 21 آب - 2014 - 12:00 بتوقيت دمشق
التفاصيل



"قومي يا أبي قومي"، ينادي أبو محمد ابنتيه، يحملهما، يحاول أن يوقظهما، لكن دون فائدة، يعيدهما إلى جانب الأطفال "النيام" الآخرين. على ما يبدو أن نيام ذاك الصباح استيقظوا في مكان آخر بعيد جداً عن هذه الحياة.

شهدت بلدات الغوطة الشرقية حالة نوم غريبة، تجاوزت مدتها العام، عائلات بكاملها لم تستيقظ حتى اليوم. لا دماء كانت على تلك الأجساد، أو أي آثار تدل على أنهم أموات، من بعيد ترى 1466 جسداً ممدداً غافياً فقط.

"معظم الأطفال ماتوا وهم يحلمون. قليل منهم وصل للنقاط الطبّية وتمكنوا من إسعافه. الرحيل الجماعي للعائلات هو الصورة الأكثر إلحاحاً. الأم والأب وأطفالهما، نقلوا من أسرَتهم إلى قبور جماعية ضمت رفاتهم."، كتبت رزان زيتونة.

اليوم الخميس نحيي الذكرى الأولى لمجرزة الكيماوي. خلال ستين يوم تقريباً بقيت المجزرة تدقّ حياتنا اليومية بشكل واضح لنا نحن البشر، لتتنقّل بعد ذلك إلى الجزء الداخلي لذاكرتنا لمدة ما تقارب ثلاثمئة يوم. وقد استحضرناها اليوم بالحالة ذاتها إلى حد ما، المشاعر، والصور، والغضب، والألم.. كما اليأس والعجز اللذين تضخما لاحقاً بسبب التخلّي الذي تعرّض له النيام في الغوطة، سواء منّا أو من العالم ككل بأنظمته ومجالسه. الشعوران المنضمّان أخيراً أكثر حضوراً فينا عند إحياء الذكرى، ومن الممكن أن يكونا المسببين الرئيسيين لإخفاء المجزرة داخل العقل في الساحة الخلفية منه.

في ذكرى إحياء مجزرة الكيماوي، سأضع الرأس البشري على طاولة التشريح، في محاولة للبحث عن مسبّبات ضياع أجزاء من الذاكرة أو اختفائها أو حتى وضعها في القسم الخلفي منها، بعد التعرّض لصدمات نفسية، وأيضاً عن كيفيّة استعادتها.

العقل الموجود في هذا الرأس تعرّض خلال السنوات الثلاث الماضية إلى صدمات كثيرة عاطفية وجسدية، مباشرة وغير مباشرة، لدى معظم البشر في سوريا. ولأنّ الصدمات ما زالت مستمرة، غاب عن صاحب الرأس إدراك تأثيرها على الذاكرة والتذكر، إلى حين مروره بموقف ما نبّهه إلى الثقوب الكثيرة في ذاكرته.

 لنذهب أبعد من ذلك، لنفترض أن الرأس تجاهل فقدانه لأجزاء من ذاكرته واعتبره أمراً طبيعياً، وأنه كان على يقين بقدرته على استحضار الذكرى في حال ألح على ذلك بينه وبين نفسه.

ذاكرته السابقة للسنوات الثلاث الماضية أصبحت شبه متلاشية، وعملية الاستحضار باتت شبه مستحيلة، ولم يبق سوى صور وأسماء مبعثرة غير واضحة، لذلك قرر الاكتفاء بما يحمله رأسه من ذاكرة السنوات الثلاث الأخيرة والتي أضاع اليوم أجزاء كثيرة منها أيضاً بعد أن أخفاها دون قصد في مكانٍ ما داخل عقله.

وكان ذلك التنبّه في يوم إحياء ذكرى مجزرة الكيماوي، التي تم إستحضارها بشكل جماعي ساعد العقل هذا بشكل أو بآخر على استعادة شريط ذكرياته في تلك الفترة المرتبطة بالمجزرة بشكل عام أو المرتبطة بحياته بشكل خاص.

قد يكون الأمر كالتالي، للبشر ذاكرة جماعية مخفية، ولهم أيضاً ذاكرة شخصية مخفية، ويبدو أن حالة استحضار تفاصيل التذكر الجماعي من شأنها استحضار الذاكرة الشخصية المرتبطة بها زمنياً بشكل أو بآخر، وكأننا أمام الأولى تهزّ الثانية: "أنا استيقظت، استيقظي أنت أيضاً من السبات".

في موقع المجزرة، كان هناك أربعة أشخاص: رزان وسميرة ووائل وناظم، مع فريق من المدنيين الناشطين، عملوا على توثيق ما حدث ونقله. شهدوا الموت ودفن الضحايا وصرخات أقرباء النيام وأحبابهم، تنقّلوا من نقطة طبّية إلى مقبرة، إلى نقطة طبية ومقبرة أخرى.

بعد شهرين من وقوع المجزرة، خُطفت رزان وائل سميرة وناظم، أي بعد شهرين تقريباً من الآن سيكتمل عام على الغياب.

"10 أشهر مرّت منذ أن اختُطفت رزان، أشعر وكأن دهوراً مضت، كل يوم يزيد إحساسي بالأسى والحزن، كلّما فتحت جهاز الكومبيوتر أبحث عنها بشكل لا إرادي لأحدّثها، الوقت يمر ببطء شديد والشعور بالمرارة والخيبة يزيد، هي مركز الحياة لكل شي بالنسبة لإلي ولعيلتنا". ريم أخت رزان زيتونة.

في حالة اخت رزان، ذاكرتها لا تحتاج إلى ضغط تذكر جماعي كي تستحضر الغياب، الذاكرة المرتبطة بأشخاص قريبين تبدو كافية لإبقائهم في الجزء الأمامي من العقل، على الرغم من كل الصدمات المتتالية، فمشاعر القلق على حياة الأخت، والشوق إليها، وكذلك التشبث في أمل خروجها من الغياب في أي لحظة، تبقي العقل والأحاسيس متصّلة بتفاصيل حياة الشخص المغيب.. هنا لا حاجة للعقل بأمر خارجيّ حتى يستحضر تلك المجزرة، في ذكراها السنوية الأولى.

في الرقة، هناك من لا يزال يحصي الغياب يوماً بعد يوم: "291 يوماً على غيابك أبو حازم"، هكذا تحصي زبيدة خربوطلي على صفحتها على موقع فيسبوك أيام غياب زوجها اسماعيل الحامض، الذي اختطفه مسّلحو تنظيم البغدادي.

"بحسّ إنه واقف قدامي، بحكي معو كلّ النهار، كأنّه موجود وعم يسمعني، بالشتا طلّعت تيابه وكويتها، وبالصيف عملت نفس الشي، بحال طلع فجأة يكون كلّ شي جاهز، كل يوم بقلّب صوره، ماغاب عني ولا لحظة، ما بحياتي حسيت بهيك قهر وحزن". زبيدة خربوطلي

عدّاد الغياب هذا تحول إلى عادة يومية عند كل من ينتظر أقربائه المغيّبين من مخطوفين ومعتقلين. وهنا قد لا يصحّ الحدث عن التذكّر، لأن النسيان لم يقع أصلاً..


"كل الأغاني تصلح للحزن في غيابك أبي ..كل المدن تصلح لانتظارك .."، وفا مصطفى ابنة الأب المغيب منذ عام 416 يوماً في أحد فروع المخابرات السورية.

قد لا يحصى الغياب بالسنوات هنا، بل هو يوم.. يوم ثان.. يوم ثالث... "لا يمكنني تصديق عدّادات الغياب، أخي الصغير سيدخل سنته الثانية في سجن داعش... أُشعِل شمعة واحدة، وأُعلّق على الأبواب عداداً يومياً، كما يفعل نصف الأصدقاء مع مفقوديهم على "فيسبوك"، يأتي محمد نور إلى الكوابيس، يحمل عداداً كبيراً من النحاس، يرميه داخل رأسي ويرحل، أحاول أحياناً إبتكار أخبار كاذبة لأمي، أحكي لها كوابيس أقل حدّة على القلب، وحين تنام، تهاجمها الكوابيس ذاتها التي تدق رأسي بقوة". عامر مطر، شقيق نور مطر الذي غيّبته "داعش" في الرقة منذ أكثر من عام.

قبل عام تماماً، في الحادي والعشرين من شهر آب، قتل النظام السوري 1466 نفساً في يوم واحد، مستخدماً سلاحاً يحظره كلّ العالم.

 

غداً الجمعة، غداة الذكرى الأولى، نعود إلى طيّ الملف، وركنه في الساحة الخلفية للرأس، بانتظار الذكرى الثانية، فيما الرجل الذي دفن ابنتيه العام الماضي ما زال يحصي أيام الغياب، 360 .. 361.. 362..

ضحى حسن - ناو.ميديا


أضف تعليقك :
الاسم : *
التعليق : *
Keyboard لوحة مفاتيح عربية
ضع الكود الموجود بالصورة : *

أخبار أخرى من " مقالات وآراء "

11-3-2015
الأسد بمساعدة حلفائه .. يبدو أنه باق !
يبدو ان فرص نجاة بشار الاسد من الازمة السياسية سالما باتت أكبر من أي وقت مضى منذ بدئها ...


11-3-2015
سوريا .. لا حل إلا هذا الحل !
  يتحاشى الذين يروِّجون لضرورة الانفتاح على بشار الأسد ونظامه، وعددهم قليل على أيِّ حال، تذكُّر أن قرار دمشق ...


10-3-2015
هل علينا التصالح مع الأسد ؟ !
مع ارتفاع وتيرة قتال الإيرانيين وحلفائهم إلى جانب قوات نظام الأسد، وتولي الإيرانيين أيضا قيادة حروب القوات العراقية ...


8-3-2015
أضعف الإيمان .. إسقاط الدولة السورية !
تصريحات الغربيين في الخلاص من النظام السوري تبدلت. الارهاب في سورية عاود صوغ المشهد. بعض الدول الاقليمية بات ...


7-3-2015
سياسة شرق أوسطية جديدة من دون الإخوان
لم أطلع على محضر اجتماعات العاهل السعودي بالرئيسين التركي والمصري، ولكني مستعدّ لأن أجزم بأن «الإخوان المسلمين» لم ...


7-3-2015
أميركا و الخليج .. من طمأن الآخر ؟
قراءة التصريحات السعودية، على لسان وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل، وتصريحات نظيره الأميركي جون كيري، حول إيران، تقول ...


7-3-2015
هل الاحتلال الداعشي حرام و الاحتلال الإيراني حلال ؟
كي لا يحاول أحد أن يصطاد في الماء العكر من مجرد قراءة عنوان المقال، سنقول: تصدوا كما تشاؤون ...


6-3-2015
هل تدعم الإمارات بقاء نظام " الأسد " في حكم سوريا ؟
ربما تكون القضية الأقل خلافا بين دول المنطقة وفي مقدمتها تركيا وقطر من جهة والسعودية والإمارات وبقية دول ...


6-3-2015
من يخشى من تغير السياسة السعودية ؟
أصبحت مسألة تغيّر السياسات السعودية حيال المشاكل التي تعاني منها منطقة الشّرق الأوسط، من أهم المسائل التي تتداولها ...


4-3-2015
مخاوف من صفقة " أميركية - إيرانية " !
أي اتفاق بين الدول الست وإيران حول ملفها النووي إذا تم رغم الصعوبات التي ما زالت موجودة بالنسبة ...


3-3-2015
سورية ولاية إيرانية ؟
بدأ نظام الملالي في إيران مدّ جذوره الطائفية نحو سورية، إذ استطاع أن يتحكّم بمفاصل حياة السوريين اليومية، ...


3-3-2015
الأزمة السورية إلى حل سياسي
رفض الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وصف موقف مصر من الأزمة السورية بالحياد. وهو قال في حواره مع «الشرق ...


3-3-2015
آخر مسيحي في الشرق الأوسط
يبدو السؤال مشروعا ومنطقيا وواقعيا حين يطرح: هل نحن نعيش حقبة تفريغ الشرق الأوسط من سكانه وأهله وشعبه ...


3-3-2015
خياران كلاهما سهل
في الأسابيع الماضية استقبلت الرياض عددا قياسيا من زعماء العرب والعالم. سواء كانت الغاية للتعزية أو للتهنئة، لم ...


1-3-2015
فشل دي ميستورا
المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا نجح في شيء واحد فقط، زيادة غضب أغلبية الشعب السوري. بدأ ...


1-3-2015
الحل في سوريا أكبر من الأسد و خصومه
عندما أعلن المبعوث الأممي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، أخيراً، أن بشار الأسد «جزء من الحل» في سوريا، ...