إعلانات
زقاق الأربعين ووثيقة آل دلاّل و الشاعر جبرائيل دلال (1836 – 1892) من أوائل شهداء الحرية
الاربعاء - 28 أيلول - 2011 - 18:21 بتوقيت دمشق
التفاصيل

في محاولة لربط الزمان بالمكان وبالحدث الذي يفعّله الإنسان سنحاول ان ننقل خطواتنا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عصر النهضة والتنوير الذي ساهمت به حلب بمطبعتها الأولى (1706) والمطبعة المارونية وبصحافتها وأبنائها روّاد النهضة.. وفي نشأة زقاق الأربعين في أطراف حي "الجديدة" وذاكرة حلب حول شاعرها جبرائيل دلاّل (1836 – 1892) الذي يعتبر أول شهداء الفكر والتنوير في بلادنا سبق شهداء الحرية الذين علقت مشانقهم في 6 أيار 1916. ولا بأس من أن نعرّج على ابن اخت الدلال شاعر حلب الكبير قسطاكي الحمصي وعائلته الكريمة وتمسكه باللغة العربية وإمكانياتها اللامحدودة في التعبير والترجمة عن اللغات الأخرى وذلك منذ بداية القرن العشرين. وليس الهدف من ذلك السرد التاريخي فقط بل لأخذ العبرة بالنسبة لحاضرنا بوجهه المشرق المأمول.

الشاعر قسطاكي الحمصي وابنته السيدة علية وأحرار حلب: 

وعلى ذكر الحرية والأحرار لا بأس من أن نذكر أمراً يتعلق بشهداء 6 أيار عام 1916 وهو ذو علاقة وثيقة بشاعرنا جبرائيل دلال وابن أخته شاعر حلب العلامة قسطاكي حمصي وكبرى بناته السيدة علية الحمصي زوجة الوجيه المالي والصناعي الحلبي ألبير رزق الله حمصي الذي كان صاحب بنك حمصي في حلب والقاهرة ومن كبار مؤسسي شركة النسيج الآلي بحلب عام 1935.

كانت السيدة علية الحمصي بارعة الجمال وكانت ذات مكانة اجتماعية عالية. وتخبرنا اختها السيدة زوية (وتعني حياة باليونانية) الحمصي الغضبان، وقد كتبت ذلك بالفرنسية في العدد الخاص من "مجلة الكلمة" الذي صدر عام 1965 عن المرحومة علية ولم تحدّد للأسف تاريخ الواقعة (اليوم والشهر) التي كانت عام 1916، ذكرت: " بينما كانت الأحكام التعسّفية على أشدّها وأعواد المشانق تُنصب في ساحات دمشق وبيروت وكانت حلب تخشى أن يصيبها سوء طالعهما، وكانت الإبتهالات والصلوات ترتفع الى الله من بين جدران الكنائس والجوامع تتلوها قلوب هلعة واجفة. عقدت في ذلك الحين في حلب جلسة هامة لأركان ديوان الحرب تضمّ القواد جمال باشا ومصطفى باشا الذي عرف فيما بعد باسم أتاتورك وغيرهما من رجال الجيش البارزين.

وقد طلب جمال باشا من صهري (ألبير حمصي) إقامة مأدبة على شرف هؤلاء الأشخاص. وبينما كانت ربة المنزل تراقب استعدادات هذه الدعوة الهامة وجدت نفسها أمام بعض السيدات من معارفها أتينها جزعات يتوسّلن اليها أن تلتمس العفو عن أزواجهنّ المسجونين بتهمة الخيانة العظمى.

وفي المساء وفرسان الجنود يحيطون بحي العزيزية ومنزل ألبير حمصي يتلألأ بأنوار المصابيح، والضيوف يتجوّلون في الأبهاء الفسيحة والمضيفة تظهر ببشاشتها ومهابتها المعهودتين. وكان الموقف يحتاج الى جرأة ومرونة للقيام بمفاتحة القائد جمال. وأخذت تدافع عن هؤلاء المساكين بكثير من الدراية والنعومة حتى أنقذتهم من حكم الإعدام".

وبفضل هذه الوساطة قدّر لمدينة حلب أن لا تشاهد أعواد المشانق. أفلا ترون معي صحّة المثل الحلبي: فلان أو فلانة بتنزّل من المشنقة. هذا ما فعلته السيدة علية حمصي أحلى جميلات عصرها، والتي قال فيها الشاعر ميخائيل الصقال هذه الأبيات التي يحتفظ بها تحت صورتها حفيدها السيد جورج أنطاكي في منزله وهي:

ماذا أرى ! هل هذه الحوراء أم .... ملكٌ على عرش الجمال قد استوى
هذي العليّةُ بابليُّ عيونها  ..... يروي لنا عن حسنها سوَر الهوى
فاقرأ بطرفٍ خاشعٍ في وجهها ... ما ضلّ من عَبَدَ الجمالَ ولا غوى

 
وقد كانت، كما يصفها لنا المرحوم الأستاذ فتح الله الصقال، زوجة صالحة وأما عطوفة وزينة المجتمعات ومحسنة كريمة ومثال التقوى والفضيلة. لها من الباري الرحمة بقدر حسناتها.  
    
ومن الجدير بالذكر انه تم اكتشاف فسيفساء من القرن السادس للميلاد أثناء حفر الأساسات لإنشاء كنيسة الملاك ميخائيل عام 1934 الى الجنوب الغربي من دار حمصي. وقد سمحت السلطات الأثرية للسيد فتحي أنطاكي بالاحتفاظ بقطعة الفسيفساء الرائعة في داره الواقعة الى الشمال من الكنيسة. وقد سميت الساحة المجاورة "ساحة الحرية" ونصب في وسطها تمثال نصفي لشاعر حلب العلاّمة قسطاكي الحمصي.

الشاعر قسطاكي الحمصي (1858- 1941):

لن أدخل في حياة الشاعر الخاصة او في مواضيع الشعر التي طرقها، وهو الذي عرّفنا على شعر ابن أخيه جبرائيل الدلال، ولكن سأكتفي بذكر أمرين أحدهما محبته لترجمة مواضيع وقصائد عن اللغة الفرنسية نظما وشعراً ويبدو انها كانت الموضة في ذلك الزمن، ومثل هذه الترجمة هي التي أودت بحياة شاعرنا الدلال. لكن ما يحق الذكر بالفعل هو إيمانه بامكانيات اللغة العربية اللامحدودة لترجمة أي نص من أية لغة.

ويقول في هذا الخصوص:" إن لغتنا إذا رزقت قريحة مواتية وهمة غير وانية ونظراً بصيراً بمواقع اللفظ وبتفهّم كلام النصّ، مع حظ الحفظ وتذوّق آداب اللغة العربية ووقوفا كافياً على روح اللغة الأعجمية التي يراد تعريب كلامها فإن لغتنا هذه لا تقصر عن الجري مع أحدث اللغات العصرية في كل ميدان، ولا تشكو في الحقيقة إلاّ فقرها الى أسماء بعض الرياش المفروش من متاع البيت أو مثله من الملبوس والماعون وغيره من الآلات والأدوات المستحدثة، مع سواها من الاستنباطات ولا سيما الأجزاء من تلك الآلات المستحدثات".

لقد كان قسطاكي الحمصي مغرماً بتعريب القصائد الشعرية الفرنسية. وكم نرى، في أيامنا هذه، رأيه صائبا في نظرته الى الترجمة من اللغات الأخرى الى اللغة العربية على أن يكون المترجم متمكنا من اللغتين العربية والمترجم عنها، وأن يكون قادراً على استنباط, أي نحت، كلمات جديدة مناسبة ضمن اختصاص كل مترجم متمكن من لغته العربية كذلك. وهذا ما نحتاجه اليوم في عصر العولمة والحواسيب، إما أن تتعلم اللغة الأجنبية وإما أن تقوم بالترجمة لكل علم ومعرفة وتوجد وتنحت كلمات جديدة من أعماق فقه اللغة العربية للكلمات الجديدة التي لا ترجمة سابقة لها.

أمّا الأمر الثاني فهو محبة قسطاكي الحمصي للغة العربية ودفاعه عنها. ففي صيف عام 1920 قام نفر من الشعوبيين في بيروت ولبنان يدعون الناس لمطالبة حكومتهم بجعل اللغة الفرنسية لغة رسمية في دوائرها ومحاكمها. وأبى كرام القوم من ذوي الأصل العربي ذلك مما ألهم شاعرنا الحمصي ينظم قصيدة "البدوية" ذات الخمسين بيتاً طالما تغنّى بها كثير من طلاب المدارس بحلب ومطلعها:

بالله يا نسمات الرند والبان  ... من نجد جئتنّ أم من روض غسّان

ونقطتف منها هذه الأبيات ويقصد فيها لغتنا العربية:

حروفها لِمعانٍ لا تُطاولُها  .... في حسنها بنتُ يونان ورومان
ألفاظها دررٌ تركيبها سوَرٌ  .... آياتـــها غررٌ في كلّ قرآن
غزيرة الفضل لم يجحد محاسنها  .... إلاّ جهولٌ بإيجاز وتبيـــان
لها الفصاحة أينما وجدت .... شهودها مثل قسّ أو كسحبـان
وفي البلاغة هل خودٌ تضارعها .... وأصلها صاعد يسمو لقحطـان

ونختم ببيت طريف من قصيدة من شعر الصبا يحاور فيها صبية بدأت تصدّه ومطلعها:
ما كان ذنبي يا أعزّ الناس ... حتى بَدّلتِ بالجفا إيناسي

ويقول فيها:

إن كان قد أفتى لك القسيس في .. صدّي فمطران الهوى شمّاسي

 (من هدية الكلمة عام 1939 " مختارات من نظم الأديب الشاعر قسطاكي الحمصي ")، ومن الجدير بالذكر تلك المقارنة التي ذكرها شاعرنا الحمصي بين مضمون رسالة الغفران لأبي العلاء المعري والكوميديا (الألعوبة) الإلهية لشاعر إيطاليا الكبير دانتي أليغيري والإقتباس الذي أخذه دانتي من شاعرنا الفيلسوف، مما أصبح اليوم وإثر عدة مؤتمرات ودراسات معمّقة حقيقة لا لبس فيها.

المهندس عبد الله حجار ( من كتاب اضاءات حلبية)


التعليقات :
سوري أصيل
(7)   (0)
شكراّ قسطاكي الحمصي شكراً لروحك
شكراً لكل شريف حاول إعلاء الأمة العربية
ياسمين الشام
(9)   (0)
عن جد اشتقت لحلب....صرت شم ريحة المطر والأرض بهالمقال...

الله يحميكي سورية من كل شر ومكروه...

أفلاطون
(12)   (0)
رحم الله أيّام حلب في عزّ عصر عراقتها وعندما كان يقطنها علية القوم , وعندما كان كل شارع وكل زقاق وكل حجر يحكي مجدا تليدا وأصالة لا تضاهى . الغوغاء من القوم هم هدمة الحضارة ومحاة العراقة بالجهل والوضاعة .
حلب العريقة
(9)   (0)
حقيقة ما يفتقده عصرنا اليوم هو هذه الطبقة من المثقفين ذوي الأخلاق النبيلة و الحس و الوعي العالي
(الناس الأصيلة المرتبطة بأرضا وبتعتز بثقافتا و بتحاول تنهض فيا مو كل مين إتعلم كلمتين بيقوم بيصير ناقم على مجتمعوا و متفرنج)
ابن السليمانية
(7)   (0)
فعلا شي بيرفع الراس
Rodi78m
(9)   (0)
شكراً على هذه المعلومات عن تاريخ نضال أبناء بلدنا الحبيب في سبيل الحرية و العزة و التحرر ,و أيامنا هذه بحاجة لأمثالهم لتطوير بلدنا الحبيب
محمود بنقسلي
(8)   (0)
رزق الله على هديك الايام
بشكر كل المسيحيين العرب والارمن لانهم هم من قامو ببناء جزء كبير من حلب عمرانيا و ثقافيا
ولهم فضل كبير على الشعب الحلبي شكرا لكل الشرفاء الحقيقيين
صبا
(6)   (0)
شكراّ قسطاكي الحمصي شكراً لروحك
شكراً لكل شريف حاول إعلاء الأمة العربية
مأمون المغترب
(13)   (0)
أنا أقرأ هذه الاسماء الرنانة و أترحم عليهم وأتذكر البعض من أحفادهم الذين تربطني معهم بعض أواصر العمل قبل أن أهجر الحبيبة حلب أتسآل ماذا فعل أحفاد هؤلاء الشموع المضيئة في سماء الوطن , ماذا ترك لهم هذا النظام السياسي والاجتماعي في بلدنا الحبيبة أين اشراقاتهم وأين وجهاء المدينة , أعتقد أن الوجهاء الان هم من العشائر والقبائل التي هاجرت من البادية والريف واستقرت في المدينة وبدأت بتجارة كافة الممنوعات المعروفة وأصبحت أعضاء في مجلس التصفيق وأثرت على حساب الشعب وعلى حساب حضارة ومدنية المجتمع الحلبي والسوري
محمد كيال
(7)   (3)
عادي لان المسلم والمسحي في سوري وحلب اخوه
محمد تمو
(10)   (1)
شكرااااااااا لانو المسلم اخو المسيحي
محمد جامعة حلب
(4)   (0)
رحمك الله وجعل مثواك الجنة يارررررررررررررررررب اجعل مثواه الجنة امين يا الله
ايو عدي
(2)   (0)
اشكر الكاتب الكريم و له منا كل الخير ونساله طول العمر .....
أضف تعليقك :
الاسم : *
التعليق : *
Keyboard لوحة مفاتيح عربية
ضع الكود الموجود بالصورة : *

مقالات أخرى من " ع البال "

24-1-2015
" برغر كينغ " ترفض تعويض الطفل السوري الذي ضربه أحد مدرائها في اسطنبول .. و الأخير يحاول إسكات والد الضحية بـ 100 ليرة !
رفضت الشركة التي تمتلك ترخيص سلسلة مطاعم "بيرغر كينغ" في تركيا تعويض الطفل السوري الذي تعرض للضرب على ...


15-4-2013
بعد ظهوره في "أراب آيدول".. صفحة إخبارية "مخابراتية" تهدد عائلة الفنان عبد الكريم حمدان
  نشرت صفحة إخبارية مؤيدة للنظام السوري على موقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" منشوراً هدّدت فيه الفنان عبد الكريم ...


7-6-2012
عرض أول جهاز أنتجته شركة أبل للبيع
أعلنت دار "Sotheby" للمزادات عن نيتها طرح أول جهاز كمبيوتر أنتجته شركة أبل للبيع في مزاد يُقام في ...


3-11-2011
حديقة العزيزية (مرعي باشا الملاّح) والحديقة العامة بحلب
تمهيد: إنّ التقرير الذي قدّمه الى المجلس البلدي بحلب المهندس الاستشاري شارل غودار، عضو المجلس البلدي ومدير سكة حديد ...


18-8-2011
سر البيلون الحلبي
كتب المرحوم الدكتور عبد الرحمن الكيالي مقالة في مجلة الحديث الحلبية تساءل فيها : هل كلمة ( بيلون) ...


13-8-2011
صناعة صابون الغار في حلب تلفظ أنفاسها الأخيرة
في عام 1999 ظهرت المواصفة القياسية السورية لصابون الغار ، التي حددت نسبة زيت المطراف فيه بخمسين بالمئة ...


10-8-2011
عيدو السواس و عيدو التنكجي مؤسسا فرقة نجمة سورية أول فرقة مسرحية بحلب
نشر الاستاذ  أحمد نهاد الفرا مقالة مطولة في مجلة العمران  (التي كانت تصدر عن وزارة البلديات فترة الوحدة ...


4-8-2011
أكلات بلاد الشام منذ خمسمائة عام
منذ حوالي خمسمائة سنة كتب باحث من بلاد الشام ملقب بإين المبرد كتاب اسماه "كتاب الطباخة " ذكر ...