كيف حاربت بريطانيا هتلر بالفكاهة والسخرية؟

في إحدى ليالي عام 1940، كان النمساوي روبرت لوكاس منهمكا في الكتابة على مكتبه من منفاه في العاصمة البريطانية لندن، بينما كانت القنابل تنهمر على المدينة كما هو الحال كل مساء، فبعد الانتصارات التي حققها جيش هتلر في أوروبا، بدا أن غزو انجلترا أمرًا وشيكًا.

ولم يعبأ لوكاس بصفارات الإنذار التي تدوي من حوله، ولا بضجيج المعدات الحربية، بل كان يركز بالكامل على تأدية مهمته التي كان يصفها بأنها “نضال من أجل تحرير عقول الألمان”، إذ كان يعد برنامجاً إذاعياً يبث لمواطني ألمانيا النازية، لكن هذا البرنامج لم يكن نداء إنسانيا ليعودوا إلى رشدهم، بل كان محاولة لإضحاكهم.

كان لوكاس يعمل في إذاعة بي بي سي الألمانية، التي انطلقت في ذروة أزمة منطقة السوديت في أيلول 1938، بهدف كسر احتكار النازيين لبث الأخبار في ألمانيا.

ولأن النازيين لم يتمكنوا من حجب الموجات الإذاعية التي تصل إلى ألمانيا، فقد عمدوا في المقابل إلى تجريم الاستماع لمحطات العدو بمجرد اندلاع الحرب. وكانت عقوبة نشر أخبار من إذاعات العدو، لمن يضبط متلبسا بالاستماع لها، هي الإعدام.

وكان الألمان الذين يتجرؤون على مخالفة القوانين يستمعون للمذياع خلسة، خوفا من الوشاة والجيران المؤذيين.

وقد أثبت أسلوب التندر وإطلاق النكات في بريطانيا آنذاك نجاحا في الحفاظ على الحالة المعنوية للمواطنين، إذ اشتهر أثناء الحرب برنامج فكاهي على إذاعة بي بي سي الإنجليزية، بعنوان “إنه نفس الرجل مجددا”. لكن من قد يخاطر بحياته في دولة معادية للاستماع لبرنامج إذاعي؟

ولم يتوقع لوكاس عندما كان بصدد كتابة البرنامج، أنه سيستقطب أي مستمعين على الإطلاق في ألمانيا، وكان يقول إنه “سيتحدث في الظلام دون أي صدى”. لكن ظهور هذا البرنامج وبرنامجين آخرين ساخرين على شاكلته في عام 1940 يكشف عن الأسلوب الجرئ التجريبي الذي تبنته بي بي سي الألمانية منذ بداية انطلاقها.

وكانت هذه البرامج تفتقر للعاملين والمعدات والتنظيم لتنفيذ مهمة الدعاية المضادة كما يجب، علاوة على أن البث الإذاعي كان حديثا نسبيا، فما بالك بالبث لدولة معادية. وهذا أضفى على البرنامج روح المغامرة والابتكار، رغم حالة اليأس التي كانت تسود البلاد في عام 1940.

ولم يكن التعاون بين القائمين على هذه البرامج سهلا على الداوم، إذ كانت هذه البرامج تعتمد على مسؤولي الدعاية البريطانيين في إذاعة بي بي سي ومجموعة من المنفيين الساخطين الذين يتحدثون اللغة الألمانية.

وكان المسؤولون البريطانيون يصرون على التزام القسم الألماني بالقواعد والمعايير المهنية الإنجليزية بصرامة. لكن هذه البرامج كانت تتطلب إلماما تاما بالسيكلوجية الألمانية، ولهذا كانت تعتمد على مساهمات لوكاس وزملائه المنفيين، الذين كان الكثير من البريطانيين ينظرون لهم بعين الريبة.

مشاكل في الترجمة
كان برنامج لوكاس يدور حول شخصية “العريف الألماني أدولف هيرنشال” الخيالية الذي يكتب خطابات على خط الجبهة لزوجته، وكان يقرأها لرفقائه المحاربين قبل إرسالها بالبريد.

وكانت كلمات هيرنشال تمجد في ظاهرها الزعيم المحبوب، لكنها في الواقع تكشف عن مدى سطحية وزيف التصريحات النازية. وفي أعقاب إعلان الحرب على روسيا في عام 1941، قرأ خطابا لزوجته يخبرها بمدى سعادته عندما سمع أخبار نقلهم إلى الحدود الروسية.

ويقول: “ألم يذكر زعيمنا المحبوب في عام 1939 أن بيننا وبين الروسيين أواصر صداقة لا تنفصم مهما حدث؟”

إذ يكشف خطاب هيرنشال عن نفاق سياسات هتلر إزاء روسيا، تحت ستار من الإخلاص المطلق للزعيم. وهذه الطريقة من الهجاء المبطن استخدمها أيضا برونو أدلر، المؤرخ الفني الألماني الذي هرب من ألمانيا إلى إنجلترا في عام 1936، وابتكر شخصية فراو فيرنيكي في برنامج لإذاعة بي بي سي الألمانية.

وكانت فيرنيكي ربة منزل في برلين كثيرة الكلام، طيبة القلب وشديدة البأس. وكانت تشتكي في حواراتها المنفردة من الظلم والتقشف والتناقضات في الحياة اليومية أثناء الحرب وكانت تعلق على الأحداث بأسلوب منطقي.

إذ كانت فيرنيكي تمزج بين الدعم الساذج للنازية وبين عرض الحقائق الصادمة للحياة اليومية في ألمانيا أثناء الحرب. وفي إحدى الحلقات، كانت فيرنيكي تستغرب من حنق صديقتها وتقول إن اضطرار زوجها لإغلاق شركته وانضمام ابنها للقوات المسلحة وإرغام ابنتها على أداء سنة إضافية من الخدمة الإلزامية وتفكك عائلتها وبؤسها لا يكفي لإثارة حنقها.

وكتب أدلر أيضا مجموعة حوارات بين شخصيتين، كورت، وويلي. كان كورت ناظر مدرسة سابق يقوم بدور المواطن الألماني الساذج، في حين أن ويلي كان مسؤولا في وزارة الدعاية الألمانية، وهو شخص متهكم ومستغل وعديم الأخلاق، وكان يسرب لصديقه الحيل التي تبتدعها وزارة الدعاية الألمانية أولا بأول.

هذه البرامج، رغم أن متحدثي الإنجليزية قد لا يفهمونها بسبب صعوبة ترجمتها من الألمانية إلى الإنجليزية ولأن تعليقات أبطالها تجاوزتها الأحداث، إلا أنها أثارت جدلا كبيرا آنذاك، حول مدى تأثيرها على المتلقي الألماني ومدى فعالية استخدام الهجاء كوسيلة للتودد للشعب الألماني وإقناعه بالرؤية البريطانية على أمل إنهاء الحرب.

وأعرب نويل نيوسوم، مدير خدمات البث الأوروبية بهيئة الإذاعة البريطانية في عام 1944، عن شكوكه في جدوى برنامج كورت وكيلي في تخفيف حدة التوتر في ألمانيا، وقال إن الإلمان ليس من المفترض أن يستمعوا لنكات عند تحويل مؤشر المذياع إلى لندن.

ورأى البعض أن الدعاية الساخرة قد تكون مخالفة للقيم الأخلاقية. وقد بُث أول البرامج الساخرة في أبريل/نيسان عام 1940، وكان محاكاة هزلية لهتلر، وكتب هذا البرنامج النمساوي مارتن ميلر، لكنه لم يكن البرنامج الأخير، إذ تلته برامج ساخرة أخرى.

وسرعان ما راقت الفكرة للروس وأنتجوا برامج ساخرة مماثلة، لكنها كانت تُبث أسبوعيا أو كل أسبوعين أثناء الحرب وليس بانتظام كالبرامج التي تُبث من لندن.

أما عن جمهور المستمعين الذي استقطبته بي بي سي الألمانية، فيقول روبرت لوكاس: “تدفق علينا سيل من خطابات الشكر” من مستمعي الخدمة الألمانية بمجرد انتهاء الحرب. ذكر أحدهم في أحد الخطابات: “أنقذتني البرامج التي تبث من لندن من الانتحار في أحلك أيام حرب هتلر”.

وذكر آخر: “ساعدتني هيئة الإذاعة البريطانية على الصمود أمام الإغراءات بالتواطؤ وإسكات ضميري”. وأشاد الكثير من المستمعين بالبرامج الساخرة، التي كما ذكر أحدهم، ساعدتهم على تحمل ما لا يطاق. وأثنى أحد المستمعين على براعة القائمين على البرامج في فهم سيكولوجية الشعب الألماني.

وحتى لو لم تجتذب حوارات فيرنيكي أو هيرنشال الفردية إلا القليل من المستمعين الألمان أو لم تكن مرحة دائما، فإن مجرد نجاحها في التخفيف من أحزان الآخرين وهمومهم وتنويرهم كان دليلا على أن مهمة لوكاس للنضال من أجل تحرير عقول الشعب الألماني لم تذهب سدى. (BBC)

تابعوا أبرز و أحدث أخبار ألمانيا أولاً بأول عبر صفحة : أخبار ألمانيا News aus Deutschland

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها