” أمريكا لم تعد مهتمة بسوريا “

من السيئ للغاية أن القليلين فقط هم الذين لاحظوا تقرير “لجنة دراسة سورية” (المُعد للحكومة الأميركية بتكليف من الكونغرس)، لأن هذا التقرير كان عملاً متماسكاً ورائعاً. (لا بد من الاعتراف بأنني صديق، أو أتعامل بروح الصداقة، مع معظم أعضاء المجموعة وكادرها). ويفكك التقرير، بشكل فعال، مختلف مسارات الصراع السوري ويوفر شرحاً واضحاً وموجزاً تمس الحاجة إليه لدوافع ومصالح الفاعلين الرئيسيين في ميدان المعركة. كما يقدم المؤلفون أيضاً مجموعة من التوصيات المدروسة جيداً للحكومة الأميركية. ومع ذلك، فإن التقرير يفعل شيئاً آخر مهماً وحاسماً بالمقدار نفسه: بطريقة غير مقصودة تماماً، يقيم التقرير القضية التي تدعم الاقتراح بأن من غير المرجح أن تسهم الولايات المتحدة بشكل كبير في تحقيق السلام والاستقرار في سورية.

إذا ما تم نشر تقرير في العام 2019 -أُعِدّ بتكليف من الكونغرس الأميركي- والذي يبحث في قضية محيِّرة في السياسة الخارجية لواشنطن، هل سيوليه أحد اهتماماً حقاً؟ ربما لا، خاصة في هذه الأيام. هكذا كان واقع الحال مع تقرير “مجموعة دراسة سورية” (SSG)، وهي لجنة من الحزبين كلفها الكونغرس “بفحص وتقديم توصيات بشأن الاستراتيجية العسكرية والدبلوماسية للولايات المتحدة فيما يتعلق بالصراع الدائر في سورية”.

ربما يتعلق الأمر بالتوقيت السيئ لإصدار تقرير “مجموعة دراسة سورية؛ حيث سلّمت المجموعة تقريرها النهائي في 24 أيلول (سبتمبر)، نفس اليوم الذي أعلنت فيه رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي عن الشروع في إجراء تحقيق لعزل الرئيس دونالد ترامب بسبب إساءة استخدامه السلطة. وهكذا، دفن الانهيار الجليدي من الأخبار التي أعقبت هذا الإعلان كل شيء في طريقه. ومع ذلك، حتى لو تم نشر التقرير النهائي لمجموعة دراسة سورية قبل أسبوع أو شهر، لكانت أغلب الاحتمالات أنه سيُستقبَل بنفس اللامبالاة والتجاهل أيضاً. ففي بلدة من الناس المهووسين بدورة الأخبار على مدار 24 ساعة، لم يكن سوى عدد صغير من الناس في واشنطن ليعرفوا حتى أن تقرير “لجنة دراسة سورية” موجود من الأساس. وسوف يفضل كل البقية عدم الاهتمام.

من السيئ للغاية أن القليلين فقط لاحظوا تقرير “لجنة دراسة سورية”، لأن هذا التقرير كان عملاً متماسكاً ورائعاً. (لا بد من الاعتراف بأنني صديق، أو أتعامل بروح الصداقة، مع معظم أعضاء المجموعة وكادرها). ويفكك التقرير، بشكل فعال، مختلف مسارات الصراع السوري ويوفر شرحاً واضحاً وموجزاً تمس الحاجة إليه لدوافع ومصالح الفاعلين الرئيسيين في ميدان المعركة. كما يقدم المؤلفون أيضاً مجموعة من التوصيات المدروسة جيداً للحكومة الأميركية. ومع ذلك، فإن التقرير يفعل شيئاً آخر مهماً وحاسماً بنفس المقدار: بطريقة غير مقصودة تماماً، يقيم التقرير القضية التي تدعم الاقتراح بأن من غير المرجح أن تسهم الولايات المتحدة بشكل كبير في تحقيق السلام والاستقرار في سورية.

يعتمد التقرير على وجهة نظر “مجموعة داسة سورية” القائلة إن هناك خمسة تهديدات للأمن القومي الأميركي داخل الصراع السوري. أولاً، ما تزال “الدولة الإسلامية” المعلنة ذاتياً قوية، وتتمتع بالموارد الكافية، وتبقى ملتزمة أيديولوجياً بتحقيق أهدافها على الرغم من الضربات التي تعرضت لها المجموعة خلال السنوات الخمس الماضية. وتؤكد التقارير الواردة من معسكرات الاعتقال المؤقتة الخاضعة لسيطرة قوات سورية الديمقراطية حقيقة أن زعيم التنظيم، أبو بكر البغدادي، ما يزال يمتلك أعداداً كبيرة من الأتباع، وأن قيادة تنظيم “داعش” ما تزال سليمة إلى حد كبير.

ثانياً، يهدد وجود إيران في سورية بنشوب حرب إقليمية أوسع نطاقاً، بالنظر إلى حرب الظل الجارية بين الإسرائيليين والإيرانيين في طيات الصراع. وحتى الآن، كان رد إيران المباشر على التوغلات الإسرائيلية ضئيلاً، لكن هذا الوضع يزيد فقط من الانفتاح على إمكانية قيام القادة الإيرانيين قريباً بتشجيع وكلائهم في لبنان وقطاع غزة على الرد بأنفسهم.

ثالثاً، إذا كانت السياسة الخارجية للولايات المتحدة تتجه إلى أن تتشكل من خلال التنافس بين القوى العظمى، فإن روسيا تستخدم سورية لبناء النفوذ على حساب الولايات المتحدة. ومن وجهة نظر القادة في المنطقة، فإن الروس يظهرون كطرف كفؤ وغير إيديولوجي وذي مصداقية مقارنة بنظرائهم الأميركيين، الذين يُعتقد بأنهم غير مؤهلين في الغالب، ومفرطين في حب تعزيز الديمقراطية، وغير موثوقين في نهاية المطاف.

بالإضافة إلى ذلك، كانت للعنف الذي أطلق بشار الأسد وأنصاره له العنان في سورية آثار بعيدة المدى، بما في ذلك زعزعة الاستقرار السياسي لأوروبا. ومع أن النازيين الجدد كانوا متواجدين منذ فترة طويلة في السياسة الأوروبية -على الرغم من أنه يشار إليهم بشكل روتيني باسم “أقصى اليمين”- فإن موجة اللاجئين السوريين التي اجتاحت أوروبا في العام 2015 أعطتهم دفعة سياسية كبيرة في بلدان مثل السويد والمجر.

وفي ألمانيا، حقق حزب “البديل لألمانيا”، وهو حزب يميني متطرف، انتصارات سياسية كبيرة في الجزء الشرقي من البلاد. وفي إيطاليا، شغل ماتيو سالفيني، الذي لطالما غازل الفاشية الصريحة، منصب وزير الداخلية في البلد حتى وقت قريب. وهو الآن خارج الحكومة، لكن هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنه سيعود هو وأنصاره إليها. وقد استفاد كل من سالفيني وحزب “بديل لألمانيا” ونايجل فاراج في المملكة المتحدة، والتجمع القومي الفرنسي، من وجود السوريين الذين يبحثون عن الأمان من حرب مروعة في أوروبا.

لعل أضعف أطروحة قدمتها “مجموعة دراسة سورية” في تقريرها هي قولها بأن انتهاك نظام الأسد للمعايير الدولية “أدى إلى تآكل التصورات عن القوة والمصداقية الأميركيَّين”. لقد قتل الأسد، بطبيعة الحال، مئات الآلاف من الناس واستخدم الأسلحة الكيماوية ضدهم، لكن التقرير يجعل الأمر يبدو كما لو أن تقاعس الولايات المتحدة عن الرد على هجمة النظام السوري كان هو المسؤول الوحيد عن الانطباع واسع النطاق عن الضعف الأميركي. وليس هذا هو واقع الحال، ببساطة. فهناك مجموعة كاملة من السياسات الأميركية الأخرى -قبل وبعد الحرب الأهلية السورية- التي غذت هذا الانطباع، وخاصة الغزو الفاشل للعراق، والانسحاب من الصفقة النووية الإيرانية، من بين أمور أخرى.

بعد مناقشته التهديدات التي تواجه الولايات المتحدة ومصالحها، ينتقل التقرير إلى بحث دوافع المتقاتلين الأساسيين في ساحة الصراع السوري، قبل أن يذهب بعد ذلك إلى استكشاف مسألة النفوذ الأميركي. وهذه مسألة حاسمة بالتأكيد. لن تكون للتقرير أي أهمية تذكر إذا لم يقدم أفكاراً بقدر مُرضٍ عن النفوذ الأميركي، لأنه لن يكون لدى المسؤولين الأميركيين من دون أدوات للنفوذ أي سبب للاعتقاد بأن بإمكانهم تشكيل الصراع والمساعدة على وضع حد له بطريقة تحمي مصالحهم الوطنية. وفي هذا الصدد، يقدم مؤلفو التقرير حجة قوية مفادها أن لدى الولايات المتحدة قدر لا بأس به من النفوذ على نظام الأسد. ويشيرون إلى أن الأميركيين وحلفائهم يسيطرون بالفعل على قطعة مهمة من الأراضي السورية؛ كما جعلت العقوبات الأميركية من الصعب على عائلة الأسد وأنصار النظام الاستفادة من الحرب. ويستطيع وزن واشنطن الدبلوماسي والمالي -وقد فعل- أن يحرم النظام من أموال إعادة إعمار. وعلى الرغم من أن خمس دول عربية بدأت في إعادة -أو تطوير- علاقاتها مع الحكومة السورية، فإن موقف الولايات المتحدة يظل يتمتع بقدر كبير من الدعم الدولي.

حتى الآن، تبدو الأمور جيدة جداً. ويوضح التقرير أن للولايات المتحدة مصالح على المحك في سورية، ولديها بعض النفوذ لإجبار أطراف أخرى على فعل ما تريد. ومع ذلك، فإن جوهر الأمر هو سؤال آخر مختلف تماماً: ما هو ذلك الذي تريده الولايات المتحدة أن تفعله في سورية؟

تشكل التوصيات التي يقدمها التقرير للمسؤولين الأميركيين أضعف جزء من عمل “مجموعة دراسة سورية”. وليس لأنها غير ذكية. يوصي أعضاء مجموعة الدراسة بأن على الولايات المتحدة أن تعكس وجهة خططها للانسحاب العسكري من شمال شرق سورية، وأن تركز على جهود تحقيق الاستقرار في تلك المنطقة، وأن تُعارض تطبيع العلاقات مع نظام الأسد، وتمارس الضغط على الروس لدعم تسوية سياسية تكون مقبولة للولايات المتحدة، ودفع الإيرانيين إلى الخروج من سورية. كما توصي المجموعة بالتعاون مع تركيا ومعالجة مخاوفها الأمنية، والعمل على تخفيف الأزمة الإنسانية في إدلب والتصدي للتهديد الإرهابي هناك، وتركيز الانتباه في النهاية على الأزمة الإنسانية في سورية ككل وتقديم الدعم للبلدان التي تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين.

عند مستوى معين من التجريد، يبدو ما يوصي به مؤلفو التقرير معقولاً للغاية. ولكن، بالنظر إلى السياق السياسي الذي عرضت فيه التوصيات، فإن معظمها قد مات قبل نشر التقرير. ويبدو قسم التوصيات كاشفاً تماماً في هذا الصدد. وهو يبدأ بالإعلان: “تعتقد مجموعة دراسة سورية أن السياسة الاميركية السليمة تجاه سورية تتطلب التزاماً سياسياً مستداماً من قبل كبار قادة حكومة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى انتهاج استراتيجية تجمع بين الوسائل والغايات”. ومع ذلك، فإن أعضاء المجموعة يعرفون أن هذا لن يحدث -وهم يعترفون بهذا المقدار. ففي الفقرة التالية، يُقرُّون بأن “من غير المرجح أن ترفع الولايات المتحدة بشكل كبير من الأولوية التي توليها لسورية”.

وبِهذا، يُترَك المؤلفون فقط مع خيار تقديم العِظات، فيعلنون: “يجب على أميركا أن لا تقف على الهوامش مكتوفة الأيدي”. وكما اعترفوا سابقاً، فإن أميركا ستفعل ذلك فقط بالتأكيد تقريباً، بما يعكس بطريقة مثالية ذلك التحول الذي تشهده السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وخاصة في الشرق الأوسط.

مجلة فورين بوليسي الأمريكية / ترجمة : صحيفة الغد الأردنية

تابعوا أبرز و أحدث أخبار ألمانيا أولاً بأول عبر صفحة : أخبار ألمانيا News aus Deutschland

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها