فيضانات ألمانيا .. إعادة البناء وفق آلية تحول دون تكرار الكارثة

يأمل سكان المناطق المنكوبة بالفيضانات في ألمانيا في العودة إلى منازلهم في أقرب وقت، بيد أن الخبراء يؤكدون الحاجة إلى تغيير جذري في آلية إعادة البناء لتجنب كوارث فيضانات في المستقبل، وهو ما يعني التفكير بحلول مستدامة.
يقف ألفريد سيباستيان في حسرة، وهو ينظر إلى ما تبقى من منزله في منطقة “آرفايلر”، غربي ألمانيا، التي اجتاحتها الفيضانات العارمة التي ضربت ألمانيا في تموز الماضي، فعلى سبيل المثال أصبح المطبخ بلا أرضية والجدران عارية ولم يعد يضم سوى القليل من الأجهزة المنزلية كُتب لها النجاة من كارثة الفيضانات.
وباتت آثار الدمار جلية في المنازل القريبة من منزل سيباستيان في قرية ديرناو في منطقة “آرفايلر”.
وبنبرة يغلب عليها الأسى، يتذكر سيباستيان ماذا وقع خلال ذروة الفيضانات، وقال: “حدث الأمر بسرعة كبيرة لدرجة أننا لم نتمكن من نقل أي شيء بعيداً عن خطر الفيضانات.. لم نكن نتوقع هطول الأمطار بهذا القدر الكبير”.
وتزخر هذه المنطقة بمزارع الكروم الخلابة، بيد أنها تعرضت للتدمير بعد هطول الأمطار الغزيرة التي حولت هدوء نهر الآر إلى سيول هائجة من المياه، أتت على كل شيء اعترض طريقها.
وخلال الفيضانات، أضطر سيباستيان الذي يشغل أيضاً منصب عمدة ديرناو، إلى الصعود إلى سطح منزله بعد أن غمرت المياه الطابقين السفلي والأرضي، ورغم الدمار الكبير الذي لحق بمنزله، إلا أن حظ سيباستيان كان أفضل من غيره من سكان قريته، بفضل أن منزله كان يقع على منطقة مرتفعة، فيما أسفرت الفيضانات عن مصرع أكثر من 130 شخصًا في منطقة “آرفايلر”، فضلاً عن تدمير آلاف المنازل، ففي قرية ديرناو أصبح قرابة 400 منزل من أصل 500 منزل غير صالح للسكن، فيما يؤكد سيباستيان أن سكان هذه المنازل يتساءلون: هل سيتم نقلهم إلى مناطق أخرى أم سيبقون في نفس القرية ومن ثم قد يكونوا عرضة لخطر الفيضانات في المستقبل؟.
وفي ذلك، قال سيباستيان: “هناك بعض الناس قد باعوا منازلهم بالفعل فلم تعد آذانهم تتحمل سماع صوت الأمطار ولا يريدون أيضاً المضي قدماً في العيش في ظل خطر مستمر بحدوث فيضانات عارمة مرة أخرى”، وأضاف: “أستطيع التأقلم مع الأمر، لكن يجب أن أعترف أن فكرة وقوع فيضانات دائماً ما تتبادر إلى ذهني”.
يشار إلى الحكومة قد خصصت 30 مليار يورو، أي ما يعادل 34 مليار دولار، لدعم المتضررين من الفيضانات وقامت بنشر خرائط خاصة بمنطقة وادي نهر “آر” تم تحديثها لتظهر المناطق المعرضة لخطر الفيضانات، إذ توضح الأماكن التي لم يعد يُسمح فيها بإعادة البناء.
وقالت السلطات إن من بين آلاف المنازل المتضررة جراء الفيضانات، تم حظر إعادة البناء لقرابة 34 منزلاً بسبب خطر تعرضها للفيضانات في المستقبل.
وحتى في المنازل التي سُمح بإعادة بنائها، لم يعد الأمر كسابق عهده، إذ طرأ على عملية إعادة البناء الكثير من المتغيرات منها التأكد من تركيب التحكم بالتيار في المنزل (صندوق الفيوزات) في الطوابق العليا لتجنب انقطاع التيار الكهرباء.
وأشار سيباستيان إلى غياب الوضوح حيال ما إذا كانت شركات التأمين ستوفر تغطية المخاطر الطبيعية للسكان الذين سيقومون بإعادة بناء منازلهم في مناطق السهول الفيضية.
ومن جانبه، دعا البروفيسور كريستيان كوهليك، الخبير في مجال مخاطر البيئة في مركز “هيلمهولتز” للأبحاث البيئية في لايبزيغ، إلى ضرورة إحداث تغيير جذري في طريقة البناء في المناطق القريبة من الأنهار الصغيرة، مثل وادي “آرفايلر”، إذ لا تتوفر حماية للمنازل من خطر الفيضانات.
وشدد كوهليك على أنه في حالة عدم إحداث هذا التغيير، فإن العاقبة ستكون “مكلفة للغاية وقد يكون أيضاً مهلكة”.
ويشير إلى أن الحلول قد تشمل أيضاً انتقال بعض السكان وأصحاب العقارات إلى أماكن مرتفعة، مستشهداً في ذلك بما حدث في بلدة فالمير الأمريكية، إذ انتقل سكانها بالكامل من وادي نهر “مسيسيبي” إلى التلال القريبة، بعد الفيضان الذي اجتاح المنطقة عام 1993.
وفيما يتعلق بمنطقة “آرفايلر”، يدعو كوهليك إلى إيجاد قواعد جديدة، مثل تقديم حوافز مالية لبناء منازل مقاومة الفيضانات تحول دون تسرب المياه داخلها، مشيراً إلى أن طرق إعادة البناء أو الانتقال إلى مناطق أخرى ما تزال متروكة إلى حد كبير للسكان والمجتمعات المحلية.
وقال إن هذا الأمر قد يحمل في طياته موافقة ضمنية من السياسيين على إبقاء المجتمعات في منطقة “آرفايلر”.
وفيما يتعلق بموجة الفيضانات العارمة التي اجتاحت ألمانيا في تموز الماضي، يؤكد كوهليك على أنه رغم عدم وجود تدابير كان بمقدورها منع فيضانات بالنظر إلى غزارة هطول الأمطار، إلا أنه شدد على وجود بعض الطرق التي من شأنها الحد من الأضرار الناجمة عن الفيضانات أو قد تساعد السكان على التكيف مع الأمر في المستقبل.
وقال إنه يمكن بناء منازل مقاومة للفيضانات تحول دون تسرب مياه الأمطار إلى داخلها عن طريق إحكام تركيب الأبواب والنوافذ أو استخدام مواد بناء لا تتأثر في حال تسرب مياه الأمطار داخل المنازل.
ودعا كوهليك إلى ضرورة بناء منازل لا تؤثر سلباً على المناخ عن طريق تقليل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، مضيفاً: “نأمل في وجود مهندسين معماريين على قدر كبير من الكفاءة يمكنهم مساعدة السكان على إعادة بناء منازلهم بطريقة أكثر استدامة”.
أما سيباستيان، فيرى أن عملية إعادة إعمار القرية قد تكون بمثابة فرصة للتغيير، مضيفاً أن مجموعة من الباحثين اقترحوا خطة لتوليد 100% من احتياجات القرية من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة بحلول عام 2027 باستخدام طاقة الرياح وتركيب ألواح شمسية على أسطح المباني، بيد أنه شدد على ضرورة وجود دعم من الحكومة لتنفيذ مثل هذه المشروعات، مضيفاً: “إذا كانت منطقة آرفايلر ستكون بمثابة منطقة نموذجية ذات ببنية تحتية للطاقة المتجددة والمستدامة، فيجب ضخ المزيد من الأموال على نحو سريع، وإلا فإن السكان سيعودون إلى أنظمة تعتمد على الوقود الأحفوري مرة أخرى”.
ويتوقع عدد من الخبراء أن تؤدي تداعيات ظاهرة التغير المناخي إلى زيادة الظواهر المناخية المتطرفة وتكرار حدوثها، ما يعني ضرورة حدوث تغيير جذري في بناء المنازل، خاصةً فيما يتعلق بمواد البناء وأيضا جعل المنازل أكثر استدامة فيما يتعلق بمصادر الطاقة.
يشار إلى أن قطاع البناء ساهم بما يقرب من 40% من الانبعاثات الناجمة عن الطاقة في عام 2019 على مستوى العالم، بما ذلك في تصنيع مواد البناء مثل الخرسانة والصلب.
ومن جانبها، شددت إليزابيث هاوسلر، رئيسة منظمة “Build Change” غير الحكومية، التي تدعو لبناء منازل توفر حماية للأشخاص الذين يعيشون في مناطق معرضة لخطر الأعاصير والفيضانات و الزلازل، على ضرورة إحداث تغييرات فيما يتعلق بمواد البناء.
وأضافت: “على سبيل المثال في المناطق المعرضة لمرور الأعاصير، ما تزال هناك أفضلية لاستخدام الكتل الخرسانية الثقيلة “، نظراً لقوة تحملها، بيد أن مادة الأسمنت المستخدمة في تصنيع الكتل الخرسانية مسؤولة عن 8% من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون على مستوى العالم.
وبالعودة إلى قرية ديرناو، ما تزال الشوارع خالية إلى حد كبير وآثار الفيضانات العارمة ما تزال هي الأخرى واضحة جلية على المنازل، ورغم ذلك، يتوقع عمدة القرية سيباستيان عودة 90% من سكان القرية البالغ عددهم ألفي نسمة وإعادة بناء المنازل في عملية قد تستغرق سنوات.
وأضاف أنه كانت القرية “بمثابة جنة”، لكنها بعد الفيضانات تحولت إلى ما يشبه منطقة صحراوية، وتابع: “آمل أن تعود القرية إلى سابق عهدها في غضون 10 سنوات بل وبشكل أفضل من أي وقت مضى.. يحدوني الأمل في عدم وقوع فيضانات كارثية مرة أخرى، لكن بالطبع ، لا يمكن ضمان ذلك”.
ناتالي مولر و نيل كينج – دويتشه فيله