لماذا انهارت أوطاننا ؟

لا يمكن لنظام حكم قائم على العصبيات الضيقة، طائفية كانت أو مذهبية أو عشائرية أو قبلية أو قومية أو مناطقية أو عسكرية أو أمنية أن يبني دولاً مهما حاول. لا مكان لدولة العشيرة أو الطائفة أو القبيلة أو القوم أو الجيش في الفكر السياسي الحديث. هذه نماذج ليس لدول، بل لعصابات. ومهما امتلكت العصابة من قوة، فلا بد أن تنهار في يوم من الأيام. لكن الكارثة الكبرى أن العصابة لا تنهار بمفردها، بل ينهار معها الكيان الذي صنعته، وحكمته بعقلية العصابة. انظروا إلى الأوضاع في سوريا وليبيا واليمن والعراق لتروا بأنفسكم بأن حكم العصابات ما هو إلا وصفة كارثية لتدمير الأوطان وتشريد الشعوب.

بلادنا تحصد الآن ما زرعه نظام الطوائف والمذاهب والأقليات والعصابات والعشائر والقبائل والأحزاب العنصرية والميليشياوية. وبالتالي، فلا يمكن لبلادنا المنكوبة أن تنهض ثانية إلا بأنظمة حكم حديثة، وبعقلية الدولة حصراً. ولا ننسى أن أهم اختراع إنساني على مدى القرون الماضية هو «الدولة»، فهو أفضل اختراع لإدارة شؤون البشر، وخاصة المختلفين طائفياً وعرقياً ومذهبياً وعنصرياً وقبائلياً.

البعض يرى أن الحل في سوريا والعراق وليبيا واليمن والصومال وغيره يكمن في تقسيم البلاد، أو الطلاق بين مكوناتها الطائفية والمذهبية والقومية. وهذا ليس حلاً، بل إمعان في التشظي والتشرذم والتقوقع، بل يخدم استراتيجية من حكمنا بعقلية العصابات. فالكيانات الحديثة ليست كيانات قزمية ضيقة، بل تكتلات ضخمة. فلا محل من الإعراب للكيانات الصغيرة في عالم العملاقة والاتحادات الكبرى. حتى الدول الحقيقية لم تعد قادرة على الصمود في هذا العالم العملاقي، فكيف بدول الطوائف والقبائل والعشائر والعصابات. لاحظوا أنه حتى الدول الغربية الحقيقية انضوت تحت لواء الاتحاد الأوروبي، مع العلم أنها تمتلك كل مقومات الدول الحقيقية، مع ذلك آثرت التكتل تحت لواء تجمعات أضخم وأكبر. فكيف إذاً يطالب البعض في بلادنا المتشظية بتشكيل دول قزمية على أسس طائفية ومذهبية وقومية ضيقة، أو على أساس استئصال الطرف المعارض طائفة كانت أو قبيلة أو مذهباً دينياً؟

الحل في كل البلدان المنكوبة بالصراعات الداخلية لا يكمن في استئصال طرف لآخر، ولا في الطلاق بين الطوائف والمذاهب والأعراق، بل في تحقيق المواطنة الحقيقية، بحيث يصبح الجميع مواطنين متساوين، وليس طائفيين أو مذهبيين أو عشائريين أو قبليين أو عنصريين متناحرين. فإذا تحققت المواطنة لن يعود أحد يتمترس وراء طائفته أو مذهبه أو عرقه، بل تذوب الفروق المذهبية والعشائرية والقبلية والطائفية والمناطقية في مبدأ المواطنة. وهذه عملية قد تبدو صعبة وغير سريعة، لكن إذا توفر العزم والإرادة لدى النخب الحاكمة ستتحقق المواطنة بسرعة بعد الثورات. لكن طالما الأنظمة تتصرف بالبلاد كمزارع خاصة، وتفضل عشيرتها أو طائفتها أو قبيلتها أو جماعتها على بقية الطوائف والمذاهب والجماعات، فاعلم أن الشعب سيتصرف بنفس الطريقة. سيتقوقع على نفسه، وسيتمترس وراء انتماءاته الضيقة تماماً كما يفعل الحاكم الطائفي أو القبلي أو العشائري أو العنصري أو الأمني. بعبارة أخرى، فإن سبب المصيبة في بلادنا هم الحكام، لأنهم القدوة. فعندما يتصرف الحاكم على أساس وطني عام، سيحذو الجميع حذوه. وعندما يهتم بطائفته ويعطيها أعلى المناصب، ويرمي بالفتات لبقية الشعب، فيصبح الجميع يعمل بمبدأ: «كل مين إيدو إلو». إذاً المشكلة في النظام.

أمريكا مثلاً عبارة عن شركة مساهمة وليست أمة، لأنها مزيج غريب عجيب من الملل والنحل والطوائف والأعراق والقوميات والأعراق المختلفة، لكن لا أحد يتمترس وراء عرقه أو طائفته في أمريكا، لأن انتماءه الضيق ذاب في المواطنة. فالجميع ينظر إلى نفسه في أمريكا والغرب المتطور كمواطن، وليس كمسيحي بروتستانتي أو كاثوليكي أو انجليكاني أو كمسلم أو يهودي أو بوذي أو شيعي أو سني أو درزي. لماذا؟ لأنه يحصل على حقوقه كباقي مكونات المجتمع.

إن أول شيء يجب فعله في بلادنا المنقسمة على نفسها البدء فوراً في تحقيق مبدأ المواطنة. نعلم أن ذلك ضرب من الأحلام في الوقت الحالي. لكن صدقوني، فقد مرت الأمم المتقدمة بمرحلة التناحر الداخلي قبلنا، وخسرت الملايين من شعوبها جراء التطاحن والاقتتال والحروب الأهلية، لكنها عادت، وبنت دولة المواطنة لتصبح في المقدمة سياسياً وصناعياً وثقافياً واجتماعياً. عندما يصبح لدينا حكام وطنيون يفكرون بالوطن، لا بالطائفة أو العصابة أو الجهاز الأمني، عندئذ ستختفي صراعاتنا وثوراتنا. لاحظوا أن البلدان التي بنت دولة المواطنة لم تشهد ثورات ولا صراعات داخلية منذ زمن بعيد. وقد زاد تماسكها الداخلي بعد الحرب العالمية الثانية.

لا مكان لدولة العصابة أو الطائفة أو القبيلة أو القوم أو الدين أو العراق أو الجيش أو الأمن بعد اليوم. وكل من يحاول إعادة تأهيلها فهو يؤسس لحروب وصراعات أهلية جديدة. صحيح أن يوغسلافيا حلت صراعاتها الداخلية بالتقسيم والانفصال. لكن ما محل الدويلات الجديدة التي حلت محل الاتحاد اليوغسلافي من الإعراب على الخارطة الدولية؟ من منكم سمع بجمهورية «الجبل الأسود» أو «مونتينيغرو»؟ لا شك أنكم الآن سارعتم إلى فتح موقع «ويكيبيديا» للتعرف على هذه الدويلة المتشظية من يوغسلافيا السابقة.
تصبحون على دولة!

فيصل القاسم – القدس العربي

تابعوا أبرز و أحدث أخبار ألمانيا أولاً بأول عبر صفحة : أخبار ألمانيا News aus Deutschland

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫5 تعليقات

  1. كل ماتقوله صحيح ودقيق ولكنه حلم في هذا الشرق الحزين فكيف للك ان تقنع داعش او النصرة او احرار الشام او جيش الاسلام او الاخوان المسلمين او السلطة او البعثيين او حزب الله او السعودية او ايران الخ ان المواطنة هي الحل وليس الطائفة او العشيرة او الحزب القائد. الحل الواقعي لبلداننا مع الأسف هو التقسيم على احجام الطوائف وكفانا احلاما وردية بأننا نضجنا ونستطيع ان نبني وطنا يحقق العدل والحريّة للجميع. يكفيك ان تزور بعضا من مواقع التواصل الاجتماعي وتقرأ تعليقات العرب والسوريين لترى أين نحن من هذه الأحلام . يمكنك ايضا ان ترى وتسمع اكثر من مائة محطة تلفزيونية دينية مهمتها التحريض وبث خطاب الكراهية لتقتنع اننا غير مؤهلين على الإطلاق لبناء دولية مدنية في أية بقعة من الشرق الأوسط

  2. الحل ليس صعباً كما يتخيل الكثيرون صحيح بان البعض لديه حلم بأن يتم تطبيق الدساتير الغربية في سوريا ما بعد الأهبل (وأنا منهم) والبعض يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية والبعض الآخر يريدون ربما تطبيق الحكم الصيني أي مركزية قوية مع انعدام الحياة السياسية وانفتاح اقتصادي وآخرون يريدون تطبيق حكم قراقوش …. الخ فمهما كان نوع الحكم ومهما كانت القوانين في البداية إذا تم تطبيقها من قبل من سيحكم سوريا مستقبلاً بشكل عادل ومتساوي على الجميع بدون أخذ الاعتبار لطائفته أو ديانته أو مدينته أو حزبه أو الفصائل التي ساعدته للوصول غلى الحكم أو استثناء نفسه وعائلته من هذه القوانين فسيعم السلام في البلد وسننهض من جديد ولن تشكل الفسيفساء المجتمعية السورية عقبة أمام ذلك وأكبر دليل على ذلك هي إسرائيل على سبيل المثال فداخل المجتمع الاسرائيلي الململم من شتى بقاع الأرض والأعراق والثقافات هناك ديمقراطية وعدالة حقيقة (للإسرائيليين فقط طبعاً) فلم تشفع لشارون سنين خدمته الطويلة في الجيش الإسرائيلي ولم تنفعه انتصاراته المدوية التي حققها على العرب حين تعلق الأمر بشبهة تلقيه مساعدة مالية لحملته الانتخابية من يهودي أمريكي قيمتها 5 مليون دولار ؟ بينما للمقارنة أفقر الدول العربية وهي اليمن سرق رئيسها المحروق 60 مليار دولار دون أن يجرؤ أحد على سؤاله كيف ولماذا سرقت ونفس الموقف تعرض له رئيس ألمانيا ورئيس إسرائيل عبر اتهامهما بسوء استغلال المنصب والاثنان الآن يقبعان في السجن . ما نحتاجه هو شخص عظيم يضع مصلحته الشخصية والحزبية جانباً ويبدأ بكتابة دستور جديد لسوريا كما فعل الرئيس الأمريكي فرانكلين عندما كتب دستور الاستقلال عن بريطانيا والذي ما زال يعد كواحد من افضل الدساتير البشرية دون أن يعطي لحزبه (القيادة للدولة والمجتمع) ودون ان يستثني نفسه من الترشح للرئاسة إلى مالانهاية ودون أن يستثني البيض أو السود أو الهنود (صحيح أنه لم يطبق بشكل كامل إلا بعد 150 سنة) ولكن كان دائماً وأبداً يصلح للبناء عليه من جديد . ما نحتاجه هو شخص يحب سوريا أكثر مما يحب نفسه مع يقيني بصعوبة إن لم يكن استحالة وجود هذا الشخص النبيل ولكن بداية الحل تبدأ من هنا .

  3. والله اول مره بوافقكك ميه بالميه
    يا ريت تبقى هيك وتبعد عن التحريض لنفتخر فيك وانت الدرزي العربي المواطن

  4. الاستاذ الدكتور فيصل
    اعبر لك عن اعجابي الشديد بافكارك و المحاكمات العقلية الرائعة و الاروع هو تخلصك الكامل و الذي قل نظيره عن التقوقع ضمن شرنقة الطائفة لكي لا اطيل عليك ما اريد اضافته هو على الاقل في وطننا المشترك الجريح سوريا دولة المواطنة كانت قائمة و الطلائع التي شكلتها كانت صادقة النية و بدات البلد تقطف ثمار المشروع بمعرض دمشق الدولي و مطار دمشق الاكبر في الشرق الاوسط و دراسة مشروع سد الفرات الذي تم اغتصاب الفكرة و تجييرها للبعث اولا و من ثم للاسد بناء المتاحف الى اخره و ديمقراطية تزهو ببساطتها على اكبر الديمقراطيات التي تحكمها مجموعات الضغط و اللوبيات لكن هذا الحال لم يعجب احدا من الكبار و بدا اللعب باعصاب ضباط الجبش و تشجيعهم على ما لا يمكن ان يفكروا فيه منفردين و هو الاستيلاء على السلطة و الهيمنة على الشعب بسلاح دفع ثمنه الشعب و هي طريقة مستخدمة و مجربة في امريكا اللاتينتىة قبل سوريا على الاقل بقرن من الزمان كي لا يتفلسف احدهم ويقول نظرية المؤامرة التي اثبت وجودها ما يحصل في بلادنا التي تعاني وجعا و تنزف دماؤها بسبب المؤامرة على شعبها البسيط الذي طلب كرامته و العالم كله يدير له ظهره.

  5. لم أقرأ المقال،لكن من العنوان أقول انهارت أوطاننا من أمثالك يا فيصل يا قاسم