من وقف إطلاق النار إلى المال السياسي القذر

من المرجح أن يتعرض وقف إطلاق النار بين الأطراف المسلحة المتقاتلة على الأرض السورية، ما إن يبدأ العمل به، لعشرات أو مئات الخروق في مناطق عدة في البلاد، لكن من غير المسوح له أن ينهار إطلاقاً، أو أن يكون مهدداً بالانهيار أصلاً، هذا لأنه أُقرَّ لأسباب دولية وليس لأسباب تتعلق بالأطراف المتقاتلة في الميدان. فقرار وقف إطلاق النار، أو العمليات القتالية، الذي أعلنه وزيرا الخارجية الأميركي والروسي منذ أيام في ميونخ يتطلب من الموافقين عليه الموافقة على شقه الثاني، أي مقاتلة الدواعش (داعش والنصرة وكل المجموعات الأخرى الخارجة عن سيطرة إحدى الدول). وبالتالي ليس الغاية منه حقن الدم السوري أو تهيئة البلاد لبيئة قادرة على استيعاب تسوية سياسية بين النظام والمعارضة، بل من أجل توفير إمكانية توجيه جميع فوهات البنادق والمدافع الممولة من دول اجتماع ميونخ باتجاه الدواعش بهدف القضاء عليهم وليس لمجرد مواجهتهم. بالتالي لا بد لوقف إطلاق النار أن يُنفذ كي تتمكن الولايات المتحدة وروسيا البدء في حرب دولية منظمة على الدواعش بقيادتهما مستخدمين جميع صنوف المقاتلين السوريين في هذه الحرب.

الثقة بثبات وقف إطلاق النار تتوافق تماماً مع ما صرّحت به موغيريني، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، بأن القتال في سورية هو عبارة عن حرب بالوكالة بين الدول الإقليمية، وهذا يعني بوضوح أن جميع الأطراف المقاتلة في سورية، بما فيها النظام، تخوض حرباً غير سورية وقتالاً لا يتعلق إطلاق بأي شأن سوري، فهذه الأطراف عبارة عن وكلاء أو أجراء لإرادات ومصالح دول إقليمية. وعلى رغم أن موقعها هذا مخزٍ على المستوى الوطني والأخلاقي، إلا أنه يسهّل لنا عملية تحقيق وقف إطلاق النار. ففضلاً عن أن التعامل بين الدول يختلف جذرياً عن التعامل بين الميليشيات، فإن الدول المؤثرة في الموضوع السوري لا تتجاوز أصابع اليدين أو اليد الواحدة، أما المجموعات المسلحة بما فيها مجموعات النظام، فإنها تحتاج إلى أصابع كثيرة لعدّها.

إذاً سيكون من السهل على الولايات المتحدة، ذات المصلحة المباشرة بوقف إطلاق النار، إلزام حلفائها الإقليميين بضمان التزام مجموعاتهم المسلحة العاملة على الأراضي السورية بتنفيذ القرار، كما لن يكون من الصعب على روسيا فرض القرار على النظام السوري بعد أن مكّنته طائراتها من استعادة السيطرة على مواقع رئيسية عدة، إذ صار بمقدورها تهديده برفع الدعم العسكري عنه وتعريضه لهزائم قاسية من قبل العديد من الخصوم. ولن يكون من الصعب إطلاقاً على روسيا وأميركا إقناع إيران بالتعهد بضبط مقاتلي «حزب الله» والمجموعات الشيعية المدعومة منها بتنفيذ القرار أيضاً، وبتغيير نوعية صراعها مع المملكة السعودية على الأرض السورية.

بناء على كل هذا يمكننا عدم الاهتمام كثيراً بالأصوات المشككة بنجاح وقف إطلاق النار هذا، الذين اعتمدوا بذلك على تجارب فاشلة سابقاً، على رغم عدم وجود أي تشابه بين تلك التجارب وبين حالتنا هذه سوى بالمسمى. علماً أنه من الممكن جداً التشكيك بالكلام الأميركي والروسي المتعلق بالتسوية السياسية المرافقة لوقف إطلاق النار، والتي يمكننا تسميتها مجريات جنيف (أو جنيف٣)، فإن كل ما قيل في شأنها من قبل الدولتين العظميين، وما ورد في قرار مجلس الأمن ٢٢٥٤، فإنه قابل للتغيير والتبديل والتأجيل والتسويف، فهذه التسوية مطروحة كأمر مكمّل وفائض على المصالح الدولية العليا، لهذا لا نرى واشنطن وموسكو مستعجلتين للتقدم بهذا المسار، فهو موجود لترويج الكذبة الإعلامية أن الموضوع هو بين السوريين.

من دون أدنى شك إن وقف القتال وإنهاء الأزمة العنيفة بين السوريين هو مكسب كبير، إذ سينخفض عدد قتلاهم كثيراً، أو على الأقل لن يكون الموت القادم مجانياً كحاله منذ أربع سنين، فعلى رغم أن قتالهم الآن سيكون تحت لواء الحرب الدولية على الدواعش وخدمة لهذه الدول، إلا أنه سيقدم خدمة أيضاً للبلاد. لكن هذا لن يكون كافياً بحد ذاته، أي لن يتضمن أي تعويض عن عذابات وخسارات السنوات الخمس الماضية، فوقف القتال ما لم يتكلل بتسوية سياسية متينة فإنه لن يكون إنهاء للقتال وأسبابه ودواعيه، بل سيكون مجرد وقف إطلاق للنار ولو كان مديداً في الزمن. وهذا سيجعلنا معرضين دوماً لاستئناف القتال في أي لحظة.

لكن يبقى الخطر الأكبر هو أن تنبني البلاد بعد كل هذا الخراب على سيادة سيطرة المسلحين. فأي ناظر للوحة الصراع في سورية سيرى خلو جميع المسارات من أي فاعل سياسي يمكن أن تكون لديه رؤية ما ولو كانت هشة تشمل جميع السوريين. فالنظام كما هو معروف قد قسم السوريين منذ البداية إلى «وطنيين» وخونة واستقال من الفعل السياسي. والمعارضة كذلك قسمت السوريين إلى «ثوريين» وعملاء واستقالت من الفعل السياسي. وإذ بنا الآن كسوريين خالي اليدين من أي طرف وطني يمكنه الاستثمار في اللحظة الحالية التي يمكن أن تكون الفرصة الأخيرة لنستطيع العودة إلى طاولة تقرير الشأن السوري.

أمام هذا الخواء السياسي المطلق ستكون مآلات التسوية في سورية سيطرة المسلحين على مجمل الحياة السورية، بدءاً من النظام الذي هجر الحقل السياسي ليتحول كلياً إلى مجرد ميليشيا، مروراً بجميع المناطق التي ستكون في حاجة إلى ضبط كي لا تعم فيها فوضى أمنية بسبب غياب مؤسسات الدولة عنها. فهذه المناطق ستسلم، في ظل غياب الفاعل السياسي، إلى مسلحيها الذين سيتم شرعنتهم كسلطات مطلقة العنان في مناطقها باعتبار أنها لن يكون لها أي مرجعية سياسية مركزية كانت أم محلية. وسيفد إلى الداخل السوري المال السياسي القذر لكنه سيأخذ صفة الشرعية بمساهمته في الإنماء والإعمار.

لؤي حسين – الحياة

تابعوا أبرز و أحدث أخبار ألمانيا أولاً بأول عبر صفحة : أخبار ألمانيا News aus Deutschland

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫5 تعليقات

  1. بمناسبة هذا المقال للؤي حسين من الاجدر والأجدى اذاً للسوريين أهل الثورة الانحياز لجبهة النصرة والانضمام اليها والقتال الى جانبها ، فهي مستقلة وقرارها سوري خالص ، رغم مايدعون من ان ارتباطاتها مع تنظيم القاعدة والتي رفض محمد الجولاني أمر زعيمها ايمن الظواهري الانضمام لتنظيم داعش الارهابي والمخترق حتى العظم من عدة اجهزة مخابرات تتحكم بتحركاته وقراراته.
    لكن ماذا عن جيش الاسلام يا اخ لؤي حسين.. والذي حارب داعش وطردها من الغوطة وكافة تسليحه من الغنائم التي استولى عليها من ترسانة الجيش النظامي ومن التصنيع المحلي هل هو برأيك خاضع لقرار جهة خارجية ؟؟ رغم ان اعداء الثورة وانت منهم يحاولون اتهام وتصنيف جيش الاسلام بانه ارهابي ..
    الاسد هو الارهابي الاول وبزواله ورحيل نظامه يستطيع السوريون ضبط اوضاع بلدهم والبدء في بنائها سياسياً واجتماعياً ومادياً.

    1. {لكن ماذا عن جيش الاسلام يا اخ لؤي حسين…هل هو برأيك خاضع لقرار جهة خارجية ؟؟}…انت شو رایك یا حبیب العین؟!! اتعرف مدینة اسمها الریاض؟؟؟

  2. كلام سليم و من صلب حقيقة الواقع السوري ……. نظام مجرم و معارضة مجرمة و شعب طائفي قذر

  3. {بأن القتال في سورية هو عبارة عن حرب بالوكالة بين الدول الإقليمية، وهذا يعني بوضوح أن جميع الأطراف المقاتلة في سورية، بما فيها النظام، تخوض حرباً غير سورية وقتالاً لا يتعلق إطلاق بأي شأن سوري، فهذه الأطراف عبارة عن وكلاء أو أجراء لإرادات ومصالح دول إقليمية}…طیب اذا نفترض جدلا ان هذا الکلام صحیح…. هل هکذا الحالة یمکن وصفها بالثورة؟ و کما یحاول البعض “الثورة الکرامة”؟؟؟
    {فالنظام كما هو معروف قد قسم السوريين منذ البداية إلى «وطنيين» وخونة واستقال من الفعل السياسي.}…هذی کذب…نحن کنا ضد الذین کانوا یستغلون الفرصة…البعض کان فی السلطة و تعمل کالمعارضة لاسقاط الدولة…و فی المقابل کان بعض الناس المعارضین الحقییقیین…مع الاسف عدم الوعی الکافی لدی المعارضة العلنیة و الضربات التی تلقیناها من المعارضة الداخل السطلة اختلط الامور کثیرة…کان المسلحین فی حماة و المعارض فلان علی قناة العالم یزعم “لا مسلحین فی حماة!”… و مع الاسف الارهابی العفن هرب و بقی المعارض الغبی بین ایدینا…