إلى الدويلة الطائفية المذهبية العرقية دُر

لا ننكر أبداً أنه كانت هناك محاولات خجولة بعد جلاء الاستعمار عن بلادنا لبناء دول وطنية مستقلة وذات سيادة، لكن تلك المحاولات أو مشاريع الدول ظلت ناقصة لأن الطبقات السياسية التي وصلت إلى السلطة بعد رحيل المستعمر لم تكن نخباً وطنية، بل كانت إما استمراراً لعهد الاستعمار بوجوه أخرى، أو أنها اهتمت بدوائرها الضيقة أكثر من الوطن. فهذا بنى نظامه على أساس عسكري ومخابراتي وليس على أساس وطني، فطغت المؤسستان العسكرية والأمنية على الدولة، وحولتها إلى ملك خاص يعربد فيه وبه كبار ضباط الأمن والجيش وأتباعهم من المستفيدين والطفيليين. وذاك بنى نظام حكمه على الطائفة، فسادت النزعة والتسلط الطائفي على كل مناحي الدولة، لا بل إن بعض القيادات التي تشدقت بالوطنية بنت حكمها على أساس عائلي كما حدث في سوريا، فتحولت الجمهورية المعلنة إلى إقطاعية عائلية وطائفية مفضوحة. وقد شاهدنا كيف سيطرت النزعة العائلية على النظام في ليبيا بحيث ارتبطت الفترة التي حكم فيها القذافي ليبيا بعائلة القذافي وأنصاره وتهميش بقية أطياف الوطن الليبي. دعكم من أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي في سوريا والعراق. ودعكم من شعارات الاتحاد الاشتراكي في مصر الناصرية. ودعكم من خزعبلات اللجان الثورية في ليبيا، فكل تلك الأحزاب والحركات لم تكن سوى غطاء للحكم الفردي والعائلي والطائفي والعسكري والمخابراتي. لقد غطت الأنظمة العربية التي جاءت بعد الاستعمار عوراتها بأوراق توت حزبية وثورية وعقائدية سرعان ما سقطت عند أول امتحان وطني حقيقي.

لقد بنت تلك الأنظمة الساقطة والمتساقطة أشباه دول وطنية، وأبقتها في مراحلها البدائية، ولم تعمل على تحصينها داخلياً، فقمعت الشعوب، وداستها، وحرمتها من أبسط حقوقها بسياساتها العسكرية والمخابراتية الوحشية، فأصبحت الشعوب تنتظر أي فرصة للانقضاض على تلك الأنظمة الدموية التسلطية. وهذا ما حدث فعلاً فيما أصبح يُعرف بالربيع العربي. وبغض النظر عما إذا كانت الثورات مدفوعة من الداخل ضد الظلم والطغيان، أو بتحريض من الخارج لتخريب بلادنا، فإن المسؤول الأول والأخير عما حدث من خراب هي الأنظمة الحاكمة التي أعطت المتآمرين في الخارج كل الأسباب التي تساعد المؤامرات على النجاح. فلو بنت تلك الأنظمة دولاً وطنية حقيقية لكل أبنائها لما حدثت الثورات أصلاً، ولما نجحت المؤامرات إذا كانت الثورات مؤامرات فعلاً.

إن المسؤول عن هذا النكوص التاريخي من مرحلة بناء الدولة الوطنية إلى ظهور الدويلات الطائفية والمذهبية والعرقية القميئة الآن هي الأنظمة نفسها. وبدل أن نقوم بتطوير أشباه الدول الوطنية في بلادنا إلى دول وطنية حقيقية، كان مشروع الفوضى الأمريكي الخلاقة بالمرصاد لنا، فاستغل الثورات ومظالم الشعوب والأخطاء الكارثية للأنظمة الديكتاتورية ليعيدنا الآن إلى دويلات مذهبية وطائفية وعرقية بدائية وعصر ملوك الطوائف. ولولا الاستعداد الداخلي الذي وفرته الأنظمة القمعية في غير بلد عربي لما مرت الفوضى الخلاقة بشكلها المدمر الذي نعيشه ونحياه الآن، فعندما يكون صاحب البيت رجلاً يستطيع أن يحل مشكلاته مع عائلاته بنفسه، فلن تتدخل أمريكا لإذكاء نار الصراع بين الشعوب والأنظمة كما في سوريا مثلاً.

لقد بُني مشروع الفوضى الخلاقة على دراسات دقيقة للأوضاع العربية ولحال الحكام العرب وتفكيرهم وسلوكهم وردة فعلهم، ولم يُبن على عبث. لقد كان أصحاب المشروع يعرفون جيدا عقلية الحكام وضباطهم ومخابراتهم العفنة، وكيف سيتصرفون في حال حدوث معارضات ومظاهرات.

لقد رفع القومجيون العرب شعار الوحدة العربية من المحيط إلى الخليج، لكنهم فشلوا حتى في توحيد دولهم داخلياً، فزرعوا فيها ألف لغم ولغم طائفي وعرقي واجتماعي وثقافي ومذهبي بحيث تحولت إلى ملل ونحل متناحرة عند أول هزة كما حدث في سوريا. لقدر راهن النظام السوري مثلاً على الصراع الداخلي بين الطوائف والمذاهب كي يستخدمه في اللحظة المناسبة عندما ينتفض الشعب عليه.

وهذا ما فعله فعلاً، فراح يذكي نار الطائفية والمذهبية بين أطياف الشعب كي يقضي على الثورة ويحول أنظار السوريين من قضيتهم الرئيسية ضد النظام إلى صراع داخلي وحرب أهلية. وقد نجح في ذلك، لكنه هو وأمثاله عاد بسوريا إلى زمن ملوك الطوائف والدويلات والإقطاعيات. والمضحك أنه ما زال حتى الآن يرفع شعار وحدة حرية اشتراكية.

فيصل القاسم – القدس العربي

تابعوا أبرز و أحدث أخبار ألمانيا أولاً بأول عبر صفحة : أخبار ألمانيا News aus Deutschland

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

‫2 تعليقات

  1. لولا ان القتلة العسكر صعدوا الى سدة الحكم لكان امكن ان تكون لنا دولا وطنية فيوسف العظمة استشهد في سوريا ولم يفكر للحظة انه يقاتل الفرنسيين من اجل الكرد المنتمي اليهم في اصوله وقل ذلك عن سلطان الاطرش الذي لم يقاتل كدرزي ولا فارس الخوري كمسيحي ولا خالد العظم كسني من اصول تركية ولا صبري العسلي كسني شركسي ولا رجال سوريا من العرب السنة مثل شكري القوتلي وسعد الله الجابري وهاشم الاتاسي وناظم القدسي والدواليبي والكزبري
    كل هؤلاء كانوا سوريين وكانوا ديمقراطيين لكن دولة البعث المجرمة جعلت منهم رجعيين وعملاء للاستعمار ورأسماليين واقطاعيين مستغلين واطلقت شعارات التقدم والاشتراكية فاعادت البلاد مئات السنين بدل ان تتقدم واستولت على رأس المال العام والخاص والارض وخربت كل ما تم بناؤه وشارك في ذلك الكل من لصوص اعجز عن تعدادهم وصحيح ان الطائفة العلوية كان اكثر المستفيدين والمتفردين بالمال والحكم الا ان الطوائف الاخرى كان لها اليد الطولى في مساعدتهم لتحقيق ما يريدون ومنها طائفة الاكثرية السنية (العربية بالتحديد)
    ولما لاحت فرصة التخلص من هذا الوضع الشاذ والطارئ تحملت الطائفة السنية العربية عبئ المعركة الحقيقية ودفعت ثمنا باهظا لا يمكن ان يعادله ثمن بينما التفت الاخرون حول القاتل وساهموا في معركة تثبيته في السلطة او انهم انحازوا الى مصالحهم الضيقة ضاربين عرض الحائط بالوطن ومن فيه وبما فيه والامثلة على ذلك كثيرة
    ورغم اني اجد كثيرا مما قاله الدكتور فيصل صحيحا الا انه لم يعط الا نصف الحقيقة وبذلك يظلم كثيرا من ابناء هذا الوطن بدل ان ينصفهم اجده يصدر ما يشبه صك براءة ويعطىه لمن له اطماع فئوية ضيقة

  2. يوسف العظمة ليس كرديا مع احترامي للكورد ، يوسف العظمة تركماني الأصل من تركمان قونية ، لم تذكر المصادر التاريخية أن عائلة العظمة من أصول كردية لذا يرجى تحري الدقة عند نقل المعلومات.