عشرون حافظ الأسد : حين شهدت جنيف تلويحة العجز الأخيرة

لعلّ المحطة الأهمّ خلال الأسابيع القليلة التي سبقت وفاة حافظ الأسد (1930 ـ 2000) كانت لقاءه مع الرئيس الأمريكي الاسبق بيل كلنتون في جنيف، أواخر آذار (مارس) 2000؛ والتي انتهت إلى الفشل، إذا نظر المرء إلى نتائج القمّة بمنظار ما كان الأسد ينتظر منها على الأقل. قبل هذه المحطة، وبعيد مقتل باسل نجل الأسد البكر، كانت المحطة الحاسمة هي ترقية النجل الثاني، بشار، كي يتولى التوريث بعد أخيه، الأمر الذي اقتضى سلسلة تدريبات أمنية وسياسية وعسكرية وعقلية، لم تغب عنها ملفات السياسة الخارجية للنظام. وهكذا، اجتمع الوريث الأكيد مع وفد رفيع من «حزب الله»، لأنّ العلاقة مع إيران كانت ورقة أساسية في معادلات الأسد الأب الإقليمية، ولكن الداخلية أيضاً. كما جرى إرسال الفتى (وكان في الرابعة والثلاثين من العمر، للتذكير) في زيارات خارجية إلى الجزائر والسعودية والكويت وعُمان والبحرين ومصر وإيران؛ وهو نشاط «دبلوماسي» بلغ ذروته مع زيارة العاصمة الفرنسية باريس في نوفمبر 1999، والتي ـ للمفارقة الصارخة ـ كان رفيق الحريري رئيس الوزراء اللبناني يومذاك هو الوسيط خلف ترتيبها.

غير أنّ اللقاء مع كلنتون في جنيف كان مسؤولية الأسد الأب، غنيّ عن القول، رغم اشتداد المرض عليه واعتلال صحته؛ إذْ أنّ الأجندة المتفق عليها، والنتائج المحتملة، كانت أشدّ خطورة من أن تُترك للفتى غير الخبير وغير العارف وغير المدرّب بما يكفي بعد؛ حتى على مستوى الحضور الرمزي، والاستماع الصامت. وبعد انفضاض القمّة لاح أنّ السؤال الأكبر، الجلي تماماً في المقابل، هو ذاك الذي يفيد فشل القمة المعلن، أم (احتمال) نجاحها المضمر وغير المنكشف إلى حين؛ وكذلك المعيار الواجب استخدامه، منطقياً، للإجابة على السؤال: أهو انصراف كلنتون والأسد من دون الإشارة إلى استئناف قريب للمفاوضات بين النظام السوري ودولة الاحتلال؟ أم هو أوسع من مجرّد استكشاف الآفاق حول هذا البند تحديداً، وقد يكون جدول الأعمال انطوى على ما لا يُعلن، وعلى ما يبرر تصريح فاروق الشرع، وزير خارجية النظام يومذاك، بأنّ القمّة لم تفشل ولم تنجح؟ وهل يعقل أنّ الأسد تجشم عناء السفر، ومثله فعل رئيس القوّة الكونية الأعظم، لكي يقضيا ثلاث ساعات (تهبط مدتها إلى النصف إذا اقتُطع زمن الترجمة)، ثمّ يعود كلّ منهما أدراجه من دون أثر صاخب دراماتيكي مدوّ؟

المنطق غير البسيط كان، في المقابل، يشدد على أنّ تطوراً طرأ على موقف الأسد من النقاط الخلافية مع إيهود باراك، رئيس حكومة الاحتلال يومذاك؛ وأنّ ذاك التطوّر كان من طراز نوعي جدير بتشجيع كلنتون على قطع آلاف الأميال بين شبه القارّة الهندية، حيث كان يختتم جولة آسيوية، وجنيف. كذلك يجوز القول إنّ باراك أبدى تجاوباً مع التطوّر الطارئ ذاك، ولعله اعتبر أنّ لقاء كلنتون ــ الأسد قد يكون التمرين الأقصى قبيل اللقاء الرسمي الأخير الذي سوف يشهد توقيع الأسد على اتفاقية سلام سورية ــ إسرائيلية. لكنّ انقطاع المحادثات بين كلنتون والأسد بعد وقت قصير من افتتاح الجلسة الثانية عنى، والتسريبات اللاحقة أكدت، أنّ المشاورات الهاتفية بين كلنتون وباراك لم تسفر عن تنازلات تستجيب لمطالب الأسد، حول تواجد الاحتلال على الضفة الشرقية لبحيرة طبرية تحديداً؛ كما تردّد، في المقابل، أنّ ما قدّمه الأسد من تنازلات لم يكن كافياً في نظر باراك.

ولأنّ النظام السوري لم يعوّد العالم على الحدّ الأدنى من المصارحة في تبيان ما يتفاوض عليه، أو حتى ما ينجح في التوصّل إليه؛ وكذلك لأنّ كتاب بثينة شعبان «مفكرة دمشق: عرض من الداخل لدبلوماسية حافظ الأسد حول السلام، 1990 ـ 2000»، الذي صدر بالإنكليزية، بائس في هذا المستوى مثل بؤس مؤلفته في المستويات كافة؛ فإنّ المرء مضطر إلى استقراء الروايات الأمريكية والإسرائيلية، عند أمثال دنيس روس الذي كان شاهداً بوصفه أحد كبار مساعدي كلنتون، أو عند أمثال الأكاديمي الإسرائيلي إيال زيسر في كتابه «حُكْم سوريا: بشار الأسد والسنوات الأولى في السلطة». وهذه، وسواها، تثبّت حقيقة أنّ باراك تعنّت في نهاية المطاف، وأغلق باب التنازلات، بعد أن توصّل إلى يقين بأنّ تلهّف النظام السوري على إتمام اتفاق مع دولة الاحتلال لم يكن مجرّد «خيار ستراتيجي» كما صرّح الأسد نفسه، بل هو في الواقع حاجة ستراتيجية يريد الأسد الأب حمل أثقالها شخصياً في ما تبقى من عمره، قبل أن تؤول إلى وريثه في غيابه فتضيف المزيد من المخاطر أمام إمساك الفتى بزمام الأمور، وسط نظام الذئاب والضباع الذي يخلّفه لابنه.

اعتبارات بارك الأخرى كانت تستبطن، أيضاً، حقيقة أنّ الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان سوف يحوّل هذا الملفّ من ورقة ضغط رابحة في يد النظام السوري، إلى عبء ثقيل يُلقى على كاهل الأسد ووريثه من بعده. ويومذاك كان جبران تويني، رئيس تحرير صحيفة «النهار» الذي سيلاقي حتفه اغتيالاً على أيدي وكلاء النظام السوري في لبنان، قد كتب افتتاحية يطالب فيها الأسد الابن، وليس الأسد الأب، بسحب القوّات السورية من لبنان. وكان جلياً، بالتالي، أنّ الاعتبارات الجيو ــ سياسية خلف سيرورات التوريث تتجاوز مفاوضات النظام مع دولة الاحتلال إلى ملفات إقليمية شتى، بعضها ظلت زمناً طويلاً بمثابة أوراق رابحة في ألعاب النظام المختلفة.

كذلك بدا واضحاً أنّ هذا الآتي إلى جنيف، متوكئاً على أمراض عضال، ليس حافظ الأسد مطلع السبعينيات أو مطلع الثمانينيات، بل هو رأس نظام ينوء بما حمّله على كتفيه من أثقال استبداد وفساد ومجازر، فضلاً عن أرق مسابقة الزمن لترتيب البيت العاصف أمام وريث هشّ ضعيف الخبرة مضطرب التكوين؛ وليس من فضائل دولة الاحتلال أن تأخذ بيد الأب الآن، وهو في متاهات تدريب الابن! إنه، باختصار بليغ، الأسد في هذه السياقات الملموسة المكشوفة من حصيلته الراهنة، الصحية أوّلاً، وتلك التي ترسم محددات نظام «الحركة التصحيحية» بأسره ثانياً، ثمّ المعطيات الإقليمية والعالمية ثالثاً؛ وليس إقدامه على امتداح باراك، بأنه «قويّ وشجاع»، سبباً لإقبال الأخير على تفهّم الحال، إذْ تبيّن أنّ العكس كان هو الصحيح في الواقع.

كلّ هذا على الرغم من أنّ الأسد ذهب إلى جنيف ضمن اعتبارات ربما كانت طارئة في التفاصيل، ولكنها لم تكن طارئة في الجوهر الذي تبلور منذ كانون الأول (ديسمبر) 1999، حين وافق النظام على استئناف المفاوضات مع دولة الاحتلال «من حيث توقفت»، ومن دون شروط مسبقة. ولعلّ باراك أدرك، جيداً أغلب الظنّ، أنّ الأسد لا يذهب إلى جنيف من أجل شدّ الحبال، بل من أجل إرخائها؛ وأنه آتٍ لكي يعرض «حاجات» النظام وما يراه «حصّة» من مغانم السلام (مع دولة الاحتلال ومع الولايات المتحدة، في آن معاً)، ولم يذهب لتحسين مسوّدة الاتفاق الذي صاغته الخارجية الأمريكية بعد جولات شبردزتاون.

وعلى امتداد كامل إرث الأسد الأب مع دولة الاحتلال، ابتداءً من إعلانه سقوط مدينة القنيطرة سنة 1967 قبل وصول أيّ جندي إسرائيلي إليها، مروراً باتفاقيات سعسع 1974، والتواطؤ الصامت على الاجتياح الإسرائيلي في لبنان، وليس انتهاءً بمفاوضات السرّ والعلن هنا وهناك؛ لعلّ خيبة آمال الأسد، من لقاء جنيف 2000 مع كلنتون، كانت بمثابة تلويحة العجز الأخيرة.

صبحي حديدي – القدس العربي

تابعوا أبرز و أحدث أخبار ألمانيا أولاً بأول عبر صفحة : أخبار ألمانيا News aus Deutschland

التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي عكس السير وإنما عن رأي أصحابها

تعليق واحد

  1. اول مرة أقرأ مقال للكاتب صبحي حديدي غير موفق وبعيد عن حقيقة الأمر الذي كان بين كلينتون وحافظ الأسد.
    حافظ الأسد لايهمه جولان ولا اي شيء غير الرضى الصهيوني والحفاظ على حكم سوريا بيد عائلته.
    نعم هو ذهب لمفاوضات كانت جادة وبإعتقاد الرئيس كلينتون بأنها ستحقق انفراجة حقيقية في قضية الجولان.
    لكن حافظ الأسد لم يكن يعنيه عودة الجولان وكانت اسرائيل تعلم ضمنا بهذا ولذلك انخرطت جديا في الاجتماعات والمفاوضات وأكد حافظ الأسد بأن الجولان سيبفى تحت الوصاية الإسرائيلية برفضه الموافقة على الاتفاق بإعادة الجولان للسيادة السورية وتحجج بأنه يريد أن يضع اقدامه في بحيرة طبريا وكان الخلاف على عشرات الأمتار للوصول للشط الشمالي للبحيرة والتي بطبيعتها انحسرت مياهها بشكل كبير بسبب الجفاف والاستنزاف الذي تمارسه الزراعة الإسرائيلية هناك.
    هذا القرار أرضى إسرائيل وبدد فرصة ذهبية لعودة هضبة الجولان السوري المحتل إلى سوريا.
    في حين أنه من الممكن أن تعود البحيرة للأمتلاء ويصل شطها لاابعد مايمكن للاسد ان يسبح بها ان اراد.